شعار قسم مدونات

بكى.. لمْ أبكِ!

blogs-واعظ

"تعبنا. فقرَّرْنا أن نتخفّفَ من أسبوع ثقيل. جاءَ الخميس، وانصرفنا في الحادية عشرة صباحًا من المدرسة" هذا اختزالٌ للبداية التي كانتْ بأيدينا قبلَ كلّ شيء. بعد اختلافٍ طويلٍ -لمْ يكنْ بأيدينا- على اسم مطعمٍ نتغدّا فيه. اتَّفقْنا على مكانٍ قريب وصلْنا. حضرتنا صلاةُ الظهر، فبحثنا عن أقرب مسجدٍ وصلّينا.
 

يقول ميلان كونديرا: "الشيء الذي يعطي معنى لتصرّفاتنا شيءٌ نجهله تمامًا". بعدما فرُغنا من الصلاة، وفي طريقِ الخروج لمحتُ مكتبة المسجد -كانتْ أوَّلَ مرةٍ أصلّي فيه- فاستأذنتُ رفقتي أن أطّلعَ عليها، وانصرفوا ينتظرونني خارجًا. كنتُ أجولُ بنظري مفتونًا بثمائنها. صادفتُ حينها اثنين من الرفقة، فوقفا بجانبي يتطلَّعان. سمعتُ صوتًا قريبًا يقول بعاميَّته: "عإيشْ عَمْ بتدَوِّرْ" يبدو أنَّه كان واقفًا منذُ زمن.
 

أجبتُه أنّني لا أبحثُ عن شيءٍ وأنّني أقرأ العناوين فحسب. واتّخذتُ قرارَ ألّا أبدي شيئًا منّي لهذا الغريب، وأن أكون غريبًا فقط، وابتسمتُ لهذه الفكرة التي جاءَتني خطْفًا. بدأ يبحثُ عن كتابٍ قالَ أنَّه وضعه في المكتبة منذ زمن، لكنّه لمْ يجدْه. أخبرني أنَّ هناك عناوين جيّدة، راح يسردُ بعضها وأنا ما زلتُ على ما عزمتُ عليه. لمْ أخبره أنّني قرأتُ ربما ربعَ العناوين الموجودة. وأردُّ عليه كأنني لا أعلمُ شيئًا. كان كبيرًا في السنِّ، مشتَعِلَ الرأسِ شيبًا، مترهِّلَ الجفنين، كأنَّما قضى عمره كلّه يبحثُ عن عائدٍ في الأفق.
 

كنا عظماء لأنَّ الخلفاء وقتها كانوا الخلفاء والفقهاء والعلماء والخدم! نعم، خدمُ الأرامل واليتامى والفقراء، يكنسون بيوتهم، يطعمون أطفالهم، يخدمون حاجاتهم

جلسَ أمام المكتبة فجلسنا. وبدأ حديثٌ طويل كأنَّ أُلفةً كانتْ بيننا منذ أعوامٍ وأكثر. قال ابتداءً: "عندي أولادٌ عندهم أولادٌ أكبرُ منكم ولكنّني أراكم أولادي". "يا أبنائي، نحنُ في زمنٍ نعيشُ فيه ضعفًا، أتعلمون لماذا؟ أتعلمون لماذا كان لنا عزٌّ أصلًا في السابق؟". كنّا نهزُّ رؤوسنا، ونصغي فحسب "كنّا عظماء لأنَّ الخلفاء وقتها كانوا الخلفاء، والفقهاء، والعلماء، والخدم! نعم، خدمُ الأرامل واليتامى والفقراء، يكنسون بيوتهم، يطعمون أطفالهم، يخدمون حاجاتهم" بكى، لمْ أبكِ.
 

ساقنا حديثٌ آخر، وصرْنا نموجُ في كلّ ما هو إسلاميٌّ تاريخيٌّ عتيق "كلُّ كلمةٍ في القرآن دستور" وبكى، "يا أبنائي كنتُ أقرأُ آياتٍ مئات المرات، لكنّني لم أعقلْها من قبل. منذُ مدّة، كنتُ أقرأها ولم أستطعْ أن أكمل غصَّ حلقي. إنّها قوله تعالى "قلْ هل ننبِّؤكم بالأخسرين أعمالًا، الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنَّهم يُحسنونَ صُنْعًا" بكى بحرقةٍ. ولمْ أبكِ.
 

قالَ كاستطْرادٍ نحوَ موضوعٍ آخر، يسألُنا: "مَن والدُك؟ مَنْ والدُك؟" حتَّى وصلني، ففهمتُ مرادَه، وأخذتُ باتّفاقي مع نفسي على أن أبقى غريبًا لا يعلمُ شيئًا وأجبتُه كما أجابه صاحباي باسمِ والدي. فقال "أنتم مخطئون، والدكم آدم، ووالدي، ووالدُ الجميع. كلّنا من آدم. لماذا نقتل! لماذا نحاربُ بعضنا! لماذا نفعلُ كلَّ هذا؟".
 

تحاملَ على نفسه خاتمًا اللقاءَ القصير "يا أبنائي، أنتم بيدكم ما لمْ يكن بأيدينا، أنتمْ ستصنعونَ ما عجزنا نحنُ عن صُنعه، أنتم تكملون ما لمْ نستطِعْ إكماله" وبكى، بكى كثيرًا. ولمْ أبكِ. لم يكن رابطُ مواضيعه واضحًا، إلّا في النهاية. عندها فهمتُ قصدَه كلَّه، سأؤمنُ بعدَ ذلك أن لا وجودَ للصُّدَف، وأنَّ علينا الانسياقَ فحسب. حتَّى يتمَّ ما هو واقع. وأنَّ كلَّ شيء، كان كما يجبُ له أن يكون. مرَّ الوقتُ بسرعة، سأتجاوزُ ملاماتٍ كثيرة، بخصوص تأخُّري لكنَّ ما حصل، كان أثمنَ من مئة لقاءٍ مدبّر.
 

خرجتُ من المسجد. استرجعتُ قبسًا من حديثنا، قال لنا لاحقًا أنَّ اسمهُ أبو محمّد. كان فصيحًا في عاميّته، رقيقًا في قوّته. كان ورقةَ شجرةٍ تحملُها الرياح. سرتُ باتّجاه صحبتي، وحدي، ظهرًا. وشعرتُ أنّ جبلًا يجثُمُ على صدري. سألتُ نفسي، لمَ لمْ أبكِ؟ كانَ شيئًا أكبر من البكاء. فبكيت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.