شعار قسم مدونات

لماذا أكتب؟

blogs - writing - aseel
ومنذ طفولتي كانوا يقولون لي: "في عائلتنا حبّ اللغة العربية والانتساب إليها واجبٌ وفريضة، فإن كان الأغنياء يُولدون بملعقةٍ من ذهب، فأنت وُلدتَ بقلمٍ يكتب". نعم؛ كان هذا الحال، فأبي وأعمامي جميعًا لديهم قريحة الشعر والأدب، وكان ذلك حالُ أبناء العمومة، هذا الشغف الذي تربينا عليه صغارًا وكبر معنا حين كبرنا، وأصبح جزءً من هُويتنا، من يومياتنا، حتى من مَنطَقِنا.

بات لا يفارقني أينما حللت، وأينما قدمًا وطأت، فكل حَدثٍ ومنظر يستفزني لأكتب، لأغوص في بحر الكلمات وأجمع منه أجمل لآلئه لأزيّن بها ما يحبسه الوجدان والروح من مشاعر، لأبوح بها لقلمي فيترجمها شعرًا أو نثرًا، نعم؛ هو أكثر من يعبر عمّا في داخلي، ويعرفني جيدًا، ولكن من أنا؟

لا أسأل عن هُويتي الشخصية، بل عن هُويتي في الكتابة؟ ففي الكتابة لتُبدع عليك أن تكون ذا هُوية، لكي يَمِيزَك بها القُرَّاء، لكي تترك في هذا العالم، عالمِ الكتابة بصمتك الفريدة، ولكنّ هذا العالم ضجّ بساكنيه وازدحم، اليومَ كثرٌ هُم، فالكلُّ يكتب، إذًا هُويتي في الكتابة وحدها ليست كافيةً لأعلم من أنا في هذا العالم، فحين وصلني إيميل الموافقة وتفعيل خاصية التدوين في مدونات الجزيرة، لم أستطع ذلك الحين أن أكتب حرفًا واحدًا، لأنّ أوّل سؤال تبادر لذهني آنذاك "لماذا أكتب؟"

أقلامنا تكتب لأنّها تتوق للانتصار، لأنّها لم تعد تطيق عيش الذل والمهانة، لأنّ فيها روحًا تقاتل، وأملًا لا يموت.

سؤالٌ كان لزامًا على كلِّ ساكني هذا العالم إجابتُه. هذا السؤال كان صعبًا جدًا، فكثيرةٌ هي الأسباب أو ما نعتقدها أسبابًا، وكثيرةٌ هي المحفزات، فحالنا كعرب مزرٍ وكمسلمين كذلك، قتلٌ، تدميرٌ، تشريدٌ، تناحرٌ، وخصومات، واقعٌ مرٌّ نعيشُه، يُملي علينا أن نشحذ سيوفنا الخشبية لتكون نافذتنا الوحيدة التي نجد فيها مُتنفسنا، التي نعبر فيها عن حب وغضب، عن أملٍ وألم، عن كلِّ ذلك التضادّ الذي يسكن دواخلنا، بمداد الدماء والأشلاء وبمَحبرة الحروب يخطُّ هذا القلم أوجاعه تارةً وحنينه وشوقه لماضي الطفولة تارةً أخرى.

ليس سهلًا أن يدرك هذا القلم وتدرك أنت أنّ أحلام الطفولة وشغف اللغة والانتماء لأمة عُرفت بفصاحة اللسان وبديع البيان، لم تكن السبب الحقيقيّ في أنني أكتب، بل كان ذلك تهيئةً لمستقبل سيجيء، يحمل معه الكثير من التجارب المؤلمة، يحمل معه ويلاتِ أمةٍ تخلّت عن ماضيها المشرِّف، عن كل جميل، أمة أسقطت سيوفها الفولاذية، لنستبدلها نحن بسيوفٍ من خشب، نعم؛ فأقلامنا تكتب لأنّها تتوق للانتصار، لأنّها لم تعد تطيق عيش الذل والمهانة، لأنّ فيها روحًا تقاتل، وأملًا لا يموت.

لم أكن أعلم أن هذا السؤال كان ليسطِّر مدونتي الأولى، سؤالٌ إجابته طويلة، أخذني في رحلةٍ في كلّ دقيقةٍ عشتُها، جعلني أفتش وأنبش وأبحث في كلّ التفاصيل، جعلني أعود لكتاباتي القديمة، حين كان قلمي بريئًا لا يعرف إلا جمالًا ومشاعرَ بريئة، ولكن هذا القلم كالبشر تمامًا، يكبر حتى يبلغ أشدّه ثم يشيخ ويهرم.

ومع كلّ يوم يتعلم ويتبدل كشخصي تمامًا، وفي كل يومٍ له دوافع وأسباب جديدة لكي يعيش ويستمر، لأنّ عالم الكتابة يشبه عالم البشر تمامًا، ففيه الحسن والرديء، فيه الغنيُّ والفقير، مزيجٌ من كل شيء، حتى الأقلام تتصارع فيما بينها، فرٌّ وكرٌّ، والانتصارُ لمن هو أقوى وأبلغ، ولكنّها كذلك تحب وتعشق، فمنها من يحب بصدق ولكنه يعفّ ويحفظ نفسه، ومنها من هو ساذج، يجد في الحب وفيض المشاعر وسيلةً ليحجز في عالَمِها سكنًا، وحتى داءُ السياسة يصيبها من حين لآخر، وربما كلُّ أمراض البشر، بل كل طبائعهم، فليس قلمُك إلا انعكاسًا لما أنت عليه، أو حتى لما تجهل في نفسك.

قد تدعي جدلًا أنّ ما تكتب لا يمثلُك ولا يعبر عنك، ولكنه في الحقيقة جزء منك، سببٌ يدفعك لتكتب، حتى لو جهلتَ مصدره، ولكن شَعَر به قلبُك، وأسرَّه لعقلك، فباح به قلمُك، هكذا العلاقة دائمًا، إنه الدافعُ الحقيقيّ، قلبٌ، وعقلٌ، وقلم، تركيبة فريدة، تدفعني كي أخطّ وأعبر عن كلّ ما اختزنته في عالمي الداخليّ، عن كلّ سرٍّ بحتُ به لصحائفي وأوراقي، عن كل تجربةٍ عشتُها ورويتُها، عن كلِّ درسٍ تعلمتُه، عن كلّ تجربةٍ آلمتني، تركيبةٌ تجيبني عن سؤالي "لماذا أكتب؟"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.