شعار قسم مدونات

سفراء الجمال.. نشيد الفرح

blogs - sunset

"لقد دعوتك بعد مولد ابني الوحيد أن تهبه من قوة العقل ما لم أستطع على افتقار إلى التعلم أن أبلغه ولقد استجبت دعائي فشكرا لك اللهم"

* * *
يستشهد بعض العاملين في المجال العام في زمن الثورات بحكم أورده ابن خلدون في مقدمته عن طبيعة الأمم التي تربت في الظلم والقهر، نختصره:
 

عُين شيللر طبيبا في الجيش بعد تخرجه بدخل شهري يلزمه أن يدّخِره لعشرة شهور ليجتمع لديه ثمن بدلته التي فصلها له أبوه عند دخوله الكلية.

"من كان مرباه بالعسف والقهر سطا به القهر، وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِلَ على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفـًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقـًا، وفسدت معاني الإنسانية التي له وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين".
 

وإن كانت الأحداث قد أثبتت صحة طرف من هذه العبارة، فإنها بذلك لا تزيد عن كونها تفسر شيئا قد وقع، لا أن تكون حكما دائما لازما، وإلا لكان تحقق القهر والعسف في زمان علامة على عدم ارتفاعه أبدا، وإن استفدنا من هذه العبارة شيئا فهو ضرورة تغذية ما فسد من الإنسانية في عالمنا العربي بما يخفف عكارتها حتى تصفو بالتدريج يوما عما قريب.
 

لم تكن الفترة التي ولد فيها فريدريك شيللر بأفضل في أوروبا مما نحن فيه، ففي أثناء حرب السنوات السبع التي شملت كل قوى أوروبا ماعدا الدولة العثمانية، والتي أعادت توزيع الأراضي من جديد على الممالك المتحاربة، فاتسعت أمم وانكمشت أخرى، في تلك الفترة، حيث كان والده ضابطا محاربا على الجبهة، كان هو يخطو خطواته الأولى في الحياة، يتعلم مبادئ اللغة والدين، ويزور أبيه مع أمه وأخته يبيتون بين الجنود على الجبهة. كان ذلك أواخر القرن الثامن عشر، والثورة الفرنسية تهز ميراث أوروبا كله في الدين والحكم والأخلاق والسياسة.
 

بعد عودة والده من الحرب، خدم في بلاط الدوق كارل يوجين، دوق فورتمبورغ، وكان الدوق حريصا على تحويل دوقيته إلى فرساي ألمانية، فافتتح دارا للأوبرا، وبنى القصور ونظم الجند، وأنشأ مدرسة عسكري، حالت دون طموح شيللر في أن يدرس اللاهوت، إذ أرغم الدوق أبناء العاملين في بلاطه بإلحاق أبنائهم في المدرسة.

لم تستقم روحه الشاعرة في صفوف الجند، ووجد في مدرسة الطب التي افتتحت ضمن المدرسة العسكرية نافذة لروحه تطالع منها شيئا من الإنسان، غير آلية نظمه وإعداده للقتال أو القتل.
 

كان شيللر كما وصفه أحد رفاقه "شاب ضئيل الجسم أشقر الشعر أزرق العينين تمتلئ عينيه بالدموع ويتملكه الخجل "فلا يجرؤ على مبادرتنا بالحديث"، أي أنه كان من ذلك النوع الذي لا يشرق إلا في وحدته، أو في جمع قليل من رفاقه المقربين، أو حين يكتب.
 

عين شيللر طبيبا في الجيش بعد تخرجه بدخل شهري يلزمه أن يدّخِره لعشرة شهور ليجتمع لديه ثمن بدلته التي فصلها له أبوه عند دخوله الكلية، لكنها كانت فترة توثب ولهو وخروج عن المألوف في قراءة الحياة، كتب في رثاء أحد أصدقائه:
 

ألا صفقوا. صفقوا بأيديكم.
واجعلوا التصفيق معبرا عن عن الفرح والابتهاج
فإن الموت هو نهاية كل جنون طويل
ورب ألم واراه الإنسان في جنبات القبر معه.
من هؤلاء الناس الذين يعيشون على الأرض في نور القمر؟
إنهم ممثلون. إنهم يلبسون الأقنعة
وبينهم وبين الموت رباط لا يرونه حق اليقين.
إلى أن يخرج بهم النفاق من ساحة التمثيل:
فطوبى لمن كان دوره صغيرا
وساوى جسمه الطبيعة
ألا إن القفزة من عرش الملك إلى قشرة الأرض
شيء يسير.. وكأنها إبدال ثوب بثوب.
 

هكذا وفي هذه السن الصغيرة رأى الحياة وكأنها جنون والأحياء منافقون.. والطريق بين العرش والقبر قصيرة سهلة كتبديل الثياب!!
 

ولكون القبر بالقبر يذكر، فقد كتب في رثاء الدوق كارل يوجين: "ها هو قد سكن لحده، هذا الرجل الذي كان نشيطا لا يعرف الكلل أو الملل ولقد كانت له أخطاؤه الكبيرة كحاكم، وأخطاؤه الكبرى كإنسان، أما أخطاؤه كحاكم فكانت تقابلها ميزات تفوقها بكثير وأما أخطاؤه كإنسان فلابد أن تتوارى ذكراها في التراب مع جثته"
 

يقول شيللر: الولع بالشعر شيء ناري قوي، مثله فيّ مثل الحب الأول. كان يشعل جذوة ما كان ينبغي عليه أن يخمد ناره.

عرف شيللر شاعرا، وعرف مسرحيا، وعرف فيلسوفا، وقلما يجتمع العقل الفلسفي والخيال الشعري لشخص واحد، فيكون عطاؤه فيهما قريبا في المستوى والخصوصية، وكثيرا ما عارض أحدهما الآخر، ولقد كان هو نفسه مدرك لذلك، حيث كتب مرة لجوته: "أراني كالمخلوق الهجين، أتأرجح بين الفكرة وبين التأمل، أو بين عقل محكوم بالقواعد، وبين خيال حر وهذا ما أورثني مظهرا على قدر من التشوش والارتباك في مجال الفكر النظري."، ولقد حرمته روحه الشاعرة الاهتمام بالبناء النسقي لأفكاره، حتى قيل لو عكف شيللر على أفكاره ونظمها لأخرج مذهبا خاصا في الفلسفة، لكن الفن غلاب، والجمال الحر أحب للنفس الشاعرة من الأفكار المنظمة، وما كان شيللر في بحثه عن توازن بين طرفيه إلا ذلك الرجل الباحث توازن البيئة الإنسانية، و"ليس ثمة من سبيل آخر، يجعل من إنسان الحس إنسان العقل إلا بجعله إنسان جمال أولا".
 

هذه التدوينة إذا مقدمة لقراءتنا لرسائل شيللر عن التربية الجمالية للإنسان، أما ما نختم به، فلن تكون قصيدته نشيد الفرح، التي ألف حولها بتهوفن آخر حركة في آخر سيمفونياته "التاسعة"، والتي أخذت لتكون النشيد الأوروبي الرسمي، وأحد الأيقونات المعبرة عن أوروبا ثقافة وفنا، بل سنختم بجزء أحبه من أحد رسائله، يعبر عن طرف من أول حياته:
 

"إني أكتب كمواطن وطنه الدنيا، مواطن لا يخدم أميرا من الأمراء، ولقد فقدت فيما مضى موطني الأول لتكون الدنيا الواسعة التي لم أكن أعرفها إلا من خلال المنظار المقرب، ولقد حولني خطأ عجيب في فهم الطبيعة إلى شاعر. كان الميل إلى الشعر يعتبر إهانة في تعاليم المعهد الذي تربيت فيه ونقضا لخطة مؤسسته".وظلّ حماسي ثمانية أعوام يناهض النظام العسكري، ولكن الولع بالشعر شيء ناري قوي، مثله فيّ مثل الحب الأول. كان يشعل جذوة ما كان ينبغي عليه أن يخمد ناره. وأراد قلبي أن يهرب من ظروف كانت بالنسبة له تساوي العذاب. فهام إلى عالم من المثاليات، ولم يكن يعرف العالم الواقعي الذي كانت تفصلني عنه القضبان، ولم يكن يعرف الناس ولم يكن يعرف ميول الكائنات الحرة المضلعة بأمر نفسها، لأن ميلا واحدا فقط لا أريد أن أذكره هنا هو الذي تمكن من النمو والنضوج، أما الجوانب الباقية من قوة الإرادة فقد وهنت، نتيجة للتوتر الذي اعتراني جانبا واحدا منها على نحو عنيف متشنج." 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.