شعار قسم مدونات

العودة للأنوثة مطلب جماهيري (٢)

blogs - women
"من يأخذ المبادرة؟"

لطالما استوقفني هذان البيتان الشهيران للشاعر الأموي جرير اللذان يصف فيهما حاله وهو مأخوذ اللُب متيم الهوى بمحبوبته:
إن العيون التي في طرفها حورٌ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللُب حتى لا حراك به وهنّ أضعف خلق الله أركانا

إن من قلة الحيلة أن تعوّل المرأة في زمننا هذا على سلاح الجمال الخارجي فقط، بينما تملك أسلحةً أكثر فاعلية تستطيع أن تُحدث بها تغييراً جذرياً في المجتمع كله، فما بالك بالرجل!

ما لفت نظري حقيقةً ليس حالة الهيام بحد ذاتها، ولكن وصف الشاعر العبقري لحاله وهو الرجل القوي الصنديد كيف أصبح صريعاً مستسلماً أمام نظرةٍ من عينيّ أنثى أعجبته، وأن تلك المرأة الغضة الناعمة قادرةٌ على إنزال أشجع الفرسان على ركبتيه ليصبح ضعيفاً أمام تأثير جمالها وجاذبيتها، فإن كان تأثير الأنوثة الخارجية المتمثلة بالجمال قوياً على الرجل للحد الذي جعله يستسلم طواعيةً لهذا الكيان الأنثويّ الذي يحمل مفاتيح قوته في ضعفه، فما بالك لو أضيف لهذا التأثير قوة الأنوثة الداخلية أو ما يُطلق عليه مجازاً "جمال الروح".. فعندما يقع الرجل في حب جمال روح المرأة يصبح جمال الشكل مكملاً للمعادلة وليس أساسها، وتتحول الأنوثة الخارجية من سببٍ للجذب إلى إضافةٍ ليس إلاّ. فكم سمعنا عن رجالٍ بدّلوا زوجاتهم الجميلات بأخريات أقل منهنّ جمالاً ولكن أكثر أنوثة، فحيث وُجدت الأنوثة الحقيقية سكن الرجل وهدأت روحه.

ولمحاولة فهم ماهية الأنوثة بشكلٍ أوضح، دعونا نرجع للفطرة الأنثوية التي فطر الله المرأة عليها وميزها بها عن الرجل، والتي من أهمها قدرتها الاستثنائية على العطاء واحتواء الآخر والتعاطف معه. والملفت للنظر أن المرأة قد أثبتت تفوقها على الرجل بشكل واضح في اختبارات الذكاء العاطفي الذي يعتبر اليوم من أهم مقومات الوصول للنجاح في العمل والحياة. فمفهوم الذكاء العاطفي يقوم على فهم وإدارة العواطف ثم توظيفها بالشكل الصحيح، وهو من صميم ما تبدع به المرأة. إن قدرة الأنثى الفطرية على إدراك احتياجات ومشاعر من حولها يجعلها أكثر وعياً بالمعطيات، وأكثر مرونةً في التصرف بناءً عليها، ولذلك توصف بالحساسة أو مرهفة المشاعر. ومن هنا يمكن القول أنّ المرأة هي الأكثر قدرةً على التواصل، وبالتالي الأكثر حظاً بالنجاح فيما يخص العلاقات الإنسانية سواءً كانت زوجةً أو أختاً أو ابنة أو حتى صديقة أو زميلة عمل.

تتحول الأنوثة الفطرية هذه إلى سحرٍ لا يقاوم، عندما توظّف المرأة ذكاءها في تطوير القدرات والإمكانيات التي اختصها بها سبحانه وتعالى، وتستثمرها بالشكل الصحيح، فذكاء المرأة وأنوثتها قادران على تغيير دفة حياتها بالكامل وقيادتها إلى حيث تريد، فبِهما تستطيع تقريب المسافات وتذليل الصعوبات وفتح الأبواب المغلقة، وتاريخ البشرية حافل بهؤلاء النساء العظيمات، وعلى رأسهنّ السيدة خديجة بنت خويلد زوجة سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- والأقرب لقلبه وعقله والتي وصفها بخير نساء العالمين.

نظرة بعض الرجال السطحية للأنثى القائمة على الشكل أولاً وقبل كل شيء، قد ضيّقت مفهوم الأنوثة ليتناسب مع قياس أفق هؤلاء الرجال.

إن تفرّد مفهوم الأنوثة كما نجده عند أم المؤمنين السيدة خديجة يجعلها خير مثالٍ يمكن أن يُطرح بهذا الخصوص، فالمرأة التي حزن لوفاتها سيد الخلق كما لم يحزن على أحد كانت من أعظم بني قومها حسباً، فهي من أعرق بيوت قريش نسباً "بني أسد" وأكثرهم التزاماً بمكارم الأخلاق في ذاك الوقت، وقد عرفت بأخلاقها العالية فلُقبت بالطاهرة العفيفة، ومن المعروف أيضا أنها كانت رضي الله عنها تتمتع بالذكاء المتقد والحكمة اللافتة فقد ورِثت دوناً عن اخوتها جميعاً تجارة والدها ونجحت في التوسع بها لتصبح أغنى نساء قريش في زمنٍ كانت توأد فيه البنات ويسوّد وجه الرجل حين يبشر بالأنثى. بالإضافة لكل تلك الصفات الفريدة فإن المميز فعلاً أن تلك المرأة القُرشية قد عَرفت جيداً قَدْر نفسها وأدركت أن امرأةً بصفاتها لا يلائمها أي رجل، فخطبت لنفسها في خطوةٍ تتسم بالجرأة والشجاعة اللافتة من وجدت فيه الفرصة التي لا تعوّض.

فعندما تجتمع الأنوثة مع الذكاء ثم تتوج بالأخلاق خرجنا بنموذج المرأة "بنت الأصول" التي تعرف جيداً واجباتها وحقوقها وتسعى لتطوير ذاتها وتربية جيلٍ جديرٍ بتحمل المسؤولية، ومع وجود نماذج مشرفة للأنوثة كالسيدة خديجة، فإن من قلة الحيلة أن تعوّل المرأة في زمننا هذا على سلاح الجمال الخارجي فقط، بينما تملك أسلحةً أكثر فاعلية تستطيع أن تُحدث بها تغييراً جذرياً في المجتمع كله فما بالك بالرجل.

وبمناسبة الحديث عن الرجل، فليست المرأة وحدها المُلامة هنا، فنظرة بعض الرجال السطحية للأنثى القائمة على الشكل أولاً وقبل كل شيء، قد ضيّقت مفهوم الأنوثة ليتناسب مع قياس أفق هؤلاء الرجال، فلا زالت المرأة في مجتمعاتنا إلى الآن تقيّم بناءً على جمالها، أما باقي ما تبقى فيُترك لعنصر الحظ والمفاجأة بعد الزواج، فمن غير المنطقي أن نطالب نصف المجتمع بالتغيير بينما مازال النصف الآخر غارقاً في سطحيته مشغولاً بإشباع رغباته.

وهنا أتساءل، هل تملك المرأة القدرة على أخذ المبادرة أم أنها لا تملك إلا أن تقول: "هيك زبون بدو هيك بياع"؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.