شعار قسم مدونات

حكمة المواقف

blogs - man
لا غرابة إن حدثك أحدهم يوما بأنه تذكر موقفا ونسي صاحبه! فما من إنسان إلا ويمر بمواقف تطبع حياته وتبني شخصيته، تلك المواقف التي تختلط فيها الأصوات الداخلية لتشكل فوضى من القرارات المترددة، مواقف ترج الإنسان بقدر ما تهبه من دروس يتكئ عليها أثناء سيره نحو مستقبله.

ولا شك أن عملية استثمار الأحداث لاستنباط الدروس ليست بتلك البساطة التي نتخيلها، ولا بتلك السهولة التي نتصورها، بل هي سلسلة متجانسة من التجارب الخاطئة التي يستفيق معها العقل ويتعلم منها القلب في مدرسة الحياة، ومن لم يقتبس من ظلمات فشله نور نجاحه ظل قابعا في مستنقع الخسارة. إن حكمة التجارب تكمن في الصوت الداخلي الذي يصنع القرار دون تردد، ذاك الصوت الذي تألم فتعلم، صوت سقط مرة ليكتشف أن وقوفه لم يكن إلا نسخة لآلاف الجمادات من حوله!

تذكر أن الحياة لا تحابي أحدا وأن سنن الله في كونه عادلة، فالمواقف كثيرة والقاعدة واحدة: إن لم تتعلم درسك جيدا، ستضطر الحياة أن تعيده لك مرة أخرى.

الجميل في مدرسة الحياة أنها تهبك النتائج قبل الدروس، فهي تجعلك فاعلا داخل الحدث لتحسه وترقبه فتحلله، ثم لتنطلق إلى محطتك الثانية بخبرة الموقف الأول، إنها أشبه بالبوصلة التي لا تستقر على هدفها إلا بعد ارتجاف بسيط، هي رجفة تفصل بين الخوف والطمأنية في لحظة يعانق فيها العقل القلب، والسر هنا لا يكمن في البوصلة ذاتها بل في اليد التي تحملها. أحيانا كل تلك الإشارات والعلامات التي تلوح لنا في الطريق لا تجدي نفعا مع قلب لم يشرع نوافذه لما يراه من حق، وعقل لم يفتح أبوابه لينفث عنه غبار التبعية والجمود، ذلك لأن الإنسان يتعلم بالمواقف أكثر من أي شيء آخر، قد تقرأ مائة كتاب عن الصداقة، ولكنك لن تكتشف جوهرها وعمقها إلا حينما تعيشها وتمارس طقوسها، حتى أولئك الذين ظنوا أن لن تزعزع المواقف بنيانهم، أخذوا نصيبهم من ذلك بقدر جرأتهم وقوة مرونتهم، ولعل في قصة إسلام عمر رضي الله عنه الشيء الكثير.

إن أشد المواقف فتكا بصاحبها تلك التي يعمي القلب فيها العقل دون سابق إنذار؛ اشباعا للشهوات واتباعا للهوى، حينها ينهار الإنسان وتتلاشى المبادئ ويضيع الموقف، إنها أشد البؤر شرا على الإنسانية، إذ من دون عقل يقظ وقلب متزن تطغى الفردانية وتسود الأنانية وينبت اللاموقف تحت راية (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)؛ والآباء هنا ليس بالضرورة أن تربطك بهم آصرة القرابة، "آباءنا" قد تكون طائفة أوشخص أومذهب يغيّب عقلك ويميت قلبك؛ فاحرص أي الآباء تتبع. ولو أردنا أن نأتي بالآيات التي دعت لإعمال العقل والنظر في هذا الكون لأطلنا النفس في ذلك، والقصد من وراء ذلك أن تحيا النظرة العقلية بعد موتها فتلامس القلب بحجتها وبرهانها، وتكون بذلك حياة للأرواح ويقظة في المشاعر والحواس، ومتى استقام العقل والقلب على هذا النهج لم يبق مجال للقرارات السطحية والمواقف الوهمية.

فإن كان القلب لا يقبل عقيدة إلا بعد مجهود عقلي يبذله الإنسان؛ فالأولى أن ترافقه هذه المعادلة في مواقفه فلا يقبل قرارا قلبيا خاطئا تغلّفه العاطفة من كل جانب، وتعصف به المشاعر من كل صوب.
نعم! فالهدي القرآني دعانا لإعمال عقولنا بحثا عن الحقيقة لا المرور بجانبها .. دعانا لذلك قصد التدبر والتأمل والاعتبار لا الوقوع في فخ التكرار.

وسط ذلك كله تذكر بأن الحياة لا تحابي أحدا وأن سنن الله في كونه عادلة، فالمواقف كثيرة والقاعدة واحدة: إن لم تتعلم درسك جيدا .. ستضطر الحياة أن تعيده لك مرة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.