شعار قسم مدونات

عن اللغة والفكر

blogs - human
(1)
إذا كانت بنية اللُّغة غير مطابقة لبنية العالم بحيث يُمكن أن تقود لفهم خاطئ لطبيعة الأشياء والعلاقات الواقعية، فكيف يكون الحال عندما تعمل اللُّغة على التعبير عمّا هو غير واقعي بطبيعته.

فنحن نستطيع أن نفكِّر في مدى تطابق أو تماثُل الكلمات مع الأشياء والعلاقات الواقعية المحسوسة، مثلاً عندما تصف الكلمات واقعاً معروفاً بالنسبة لنا، نستطيع أن نفكِّر في العلاقة بين الكلمات أو اللُّغة وذلك الواقع، لأننا في هذه الحالة نملك وسيلة أُخرى غير اللُّغة للاتصال بالعالم هي الحسّ.

إذا لم تكن الأفكار تملك جوهراً مفارقاً للكلمات سيكون من المستحيل أن نحصل على نفس الفكرة بكلمات وصيغ مختلفة.

ولكن عندما تكون الكلمات هي كل ما لدينا.. عندما تكون الكلمات هي التمثيل والتجسيد الوحيد الملموس الذي نملكه، فإن الواقع الذي ترمز إليه سيكون معطى بالنسبة لنا فقط من خلال هذه الكلمات، فكيف نستطيع في هذه الحالة أن نتكلَّم عن مدى التطابق بين اللُّغة وذلك العالم "المستحيل" إذا كانت اللُّغة نفسها هي نافذتنا الوحيدة التي نطلّ من خلالها عليه.

(2)
السؤال الذي قد يبرز هُنا هو هل هُناك "فكرة" بمعزل عن الكلمات التي تحمل هذه الفكرة، أو هل الأفكار تُوجد مستقلة عن الكلمات بحيث تكون الكلمات مجرد أداة أو سيط لتمثيل ونقل هذه الأفكار والتعبير عنها، أم أن الفكرة لا تُوجد إلا بواسطة كلمات، أو بشكل أكثر تجريداً بواسطة رموز؟

إذا كانت الأفكار لا تملك جوهراً مستقلاً عن اللُّغة والكلمات التي تجسّدها فإن السؤال عن تطابق اللُّغة مع الفكر سيكون بلا معنى، لأن اللُّغة ستكون هي كل ما هناك. (هُنا يجب أن نميّز الفكر عن الشعور الذي يُوجد بكل تأكيد بمعزل عن الكلمات، وعن الخيال الذي يرتبط أصلاً بالأشكال والصُوَر).

إن أكبر دليل على أن الأفكار يُمكن ان تُوجد بمعزل عن الكلمات، هو أننا نستطيع الاحتفاظ بالأفكار دون الكلمات.

إذا قمت بمسح هذا المقال وأعدت كتابته من جديد فقد لا أتمكّن من صياغته بنفس الكلمات، ولكن الأفكار الأساسية ستكون موجودة في المقال الجديد أيضاً. دليل آخر، أننا نقرأ النصوص وتترسخ الأفكار في أذهاننا ولكن الكلمات التي حملت إلينا تلك الأفكار تختفي من ذاكرتنا، وهذا الذي يجعلنا نعبِّر عن تلك الأفكار بكلمات وصيغ مختلفة.

وإذا لم تكن الأفكار تملك جوهراً مفارقاً للكلمات سيكون من المستحيل أن نحصل على نفس الفكرة بكلمات وصيغ مختلفة.

(3)
وإذا كان الفكر يُوجد مستقلاً عن اللُّغة، على الرغم أن اللغة والرموز عموماً هي وسليتنا لتجسيد الأفكار، فإن مشكلة التطابق (أو بالأحرى الانفصال) بين اللُّغة والعالم تظل قائمة هُنا أيضاً في عالم الأفكار.

هل ما زال، مع ذلك، القول بأن اللغة هي النافذة الوحيدة الممكنة الى عالم الأفكار صحيحاً؟ على أي حال كون اللُّغة هي نافذتنا الوحيدة إلى عالم الفكر لا يناقض حقيقة استقلال الفكر عن اللُّغة.

(4)
بالعودة الى الفقرة (1)، تكون الكلمات هي الشيء الوحيد الذي نملكه عندما تكون الفكرة التي تحملها تلك الكلمات غريبة عن عالمنا الخاص، ولكن ما أن ندرك الفكرة، تغدو الكلمات التي حملتها إلينا مجرد وسيط، تغدو مجرد رموز يُمكن تشبيهها بالكؤوس الفارغة: كانت هُنا فكرة، ولكنها لم تعد موجودة الآن في هذه الكؤوس/الكلمات/الرموز وإنما في الذهن.

إذن، في هذه المرة ستُثار مشكلة التطابق والاتصال ليس على مستوى اللُّغة-الفكر وإنما على مستوى الفكر-الفكر. أي أن السؤال هُنا يكون "هل الأفكار تطابق حقيقتها؟ " ولا شك أن الفكرة تتطابق مع ذاتها، هذا في منتهى البداهة، ولكن الفكرة ليست ذاتاً، وإنما هي موضوع وعليها أن تتطابق مع أصلها وجوهرها حتى تكون حقيقية، وإلا فإنها ستغدو مثل الوعي الزائف بالذات: حينما أعتقد أنني المهدي المنتظر أو أنا المسيح مثلاً، فهذا وعي زائف مهما كان هذا الاعتقاد قوياً وعميقاً، وكذلك الأفكار، يُمكن أن تكون تمثُّلاً زائفاً للفكرة الأصيلة، أو مجرد شبح فكرة.

(5)
ولكن أين تُوجد الفكرة الأصيلة؟ ذلك الجوهر المستقل عن اللُّغة، والمستقل عن التمثُّلات أو التمظهُرات الذهنية أيضاً؟

هذا التساؤل هو تكرار للفقرة (2) عندما تساءلنا عن الوجود المستقل للفكرة بمعزل عن الكلمات، وها نحن الآن نطرحه حول العلاقة بين الفكرة والتمثُّل الذهني لها. هُنا تكون الفكرة في تمثُّلها الذهني بمثابة وجود لغوي أو رمزي (كلمات ورموز من نوع آخر) للفكرة، فهل هُناك جوهر للفكرة بمعزل عن وجودها أو تحققها الذهني؟

"ديكارت" في كتابه تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ذكر أن للفكرة وجود غير الذي تتلقاه أو تستفيده من الفكر بوصفها شكلاً من أشكاله أو نحواً من أنحاءه. وهُنا بالطبع لم أورد ديكارت كحُجة، وإنما كتوضيح وتعزيز للسؤال، وربما لنتساءل أيضاً ما الذي جعل ديكارت محقاً في هذا الزعم، إن كان محقاً، أو لعله مخطئ.

إن الفقرة (2) قد أجابت على هذا التساؤل أيضاً في اللحظة التي تقرر فيها أن الفكرة تُوجد مستقلة عن الكلمات التي تحملها. لأن الذهن هو أيضاً حامل ووسيط مثل اللُّغة، فإذا كانت الفكرة مستقلة عن الوسيط اللُّغوي، فهي مستقلة أيضاً عن الوسيط الذهني.

ولكن هذا لا يجيب على التساؤل حول أصل الفكرة ومصدرها الأوَّلي. وقد تبدو الإجابة تافهة "trivial" لا تقول شيئاً مفيداً، ولكن ليس أمامنا سوى العالم الواقعي، هُناك فقط يُمكننا أن نبحث عن أصل الأفكار وجوهرها.

إن الفكرة حينما لا تكون موجودة على أرض الواقع المحسوس، فهي تُوجد في الواقع الذهني المجرد، فمن الذي يشك مثلاً في وجود فكرة الحرية أو فكرة العدالة حتى لو لم تكن الحرية أو العدالة ممكنة في الأرض. ومن الذي يشك أيضاً في وجود أفكار كثيرة زائفة عن الحرية والعدالة.

(6)
هذا العالم الواقعي (يشمل العالم الحسي والعالم الذهني) يشكِّل الإنسان وذهن الإنسان جزءاً صغيراً منه.. نقطة وسط محيط هائل من الزمان والحياة والصيرورة.

إن الفكر الحقيقي يبدأ حينما تكُف الكلمات عن كونها سُلطة، فالكلمات حينما تعمل كسُلطة موجهة للفكر فهذه ليست عملية تفكير، بل هي علاقة تبعية لا أكثر.

وقد يقف الإنسان وسط المحيط الهادر للصيرورة ليمشي خطوات صغيرة على هذه الأرض قبل أن يعود اليها مرة أُخرى. مثل طفل يتعلّم المشي، أو كخطوات بطل مأساوي مليئة بالاعتزاز مثل "بارمنيدس" كما تخيله "نيتشه"، أو مثل خطوات نبي يبحث عن السمو والتعالي والإطلاق، يُمكننا أن نتخيّل ما لا نهاية له من خطوات الإنسان بالجسد وبالعقل وبالروح.. بالكلمات وبالفكر، من الأكثر عبثية ولامعنى إلى الأكثر انغراساً وتجذّراً في الأرضية الصلبة للجوهر الحقيقي الكامن وراء الزمان والحياة والصيرورة. ولكن في النهاية من الذي يُمكنه الإفلات من قبضة الدهر؟

(7)
إن القدرة على تجاوُز الكلمات والرموز ومعانقة الفكرة في ذاتها هي جوهر عملية التفكير. وهي أيضاً نوع من الإفلات من قبضة اللُّغة.

إن الفكر الحقيقي يبدأ حينما تكُف الكلمات عن كونها سُلطة، فالكلمات حينما تعمل كسُلطة موجهة للفكر فهذه ليست عملية تفكير، بل هي علاقة تبعية لا أكثر. والأفكار حينما تُدرك بمعزل عن الكلمات فهي تقف مجردة من كل الظلال والحُمولات ومن كل شيء يُمكن أن تخلعه اللُّغة (أو الثقافة والتاريخ) على الفكرة، تصبح حقيقية بين يدي الذات الحُرة. أقول حُرة لأنها هي التي تجاوزت الكلمات إلى الأفكار، ومن ثم إلى ذاتها. بل يُمكن القول أن الذات نفسها تبدأ حيث تنتهي اللُّغة والأفكار.

وتظل الذات هي الأرضية الصلبة وسط المحيط الهائل للصيرورة والتحوُّل، فالإنسان قد يبحث كثيراً عن أرضية ثابتة يقف عليها قبل أن يكتشف أنه لا يُمكنه الوقوف على شيء في هذا العالم سوى ذاته، وقد لا يكتشف ذلك قبل أن يعود من حيث أتى، إلى التراب.

"ويوم نموت سيمحو النسيم الرقيق آثار أقدامنا علي الرمال.. بعدما يفني النسيم، تري من يخبر الأبدية أننا مشينا ها هنا مرة في فجر الزمان؟ " أغنية لقبائل البوشمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.