شعار قسم مدونات

أنا وسامر.. قصة من ذاكرة الثورة المصرية

blogs-مصر

في يوم 1 فبراير 2011 كنت وسط مجموعة من أصدقائي أصحاب اللِّحى الكبيرة في ميدان التحرير نقوم بتوزيع بعض ساندوتشات الجبن على المعتصمين والمتظاهرين، وكانت الحشود يومها كبيرة جدا رغم إغلاق الجيش كل مداخل القاهرة.
 

فإذا بِشابٍّ ثلاثيني يأخذ الساندوتش ويقف يأكله وسطنا دون أن يتحرك، ثم ينظر في وجوهنا ليختار أطول لحية فينا، ويقول له وهو مبتسم: أنا مسيحي وعندي سؤال لك يا عم الشيخ.فيتعجب الشيخ، ويشير له عليَّ قائلا: هذا هو الشيخ، فاسأله كما تحب (وكنت أقصر لحية بين الواقفين).
 

مما جعل الشاب يظن أن صديقي يتهرب من السؤال، فقال له صديق آخر: بالفعل هذا شيخنا فاسأله سؤالك، فسألني سؤالا لم يخطر لي على بال وقتها: "يا عم الشيخ، أنتم ستحكمون البلد بعد هذه الثورة، فماذا ستفعلون معنا نحن المسيحيون"؟ فقلت له: لا، لن نحكم البلد، اطمئن. فقال: لا، بل ستحكمونها، وفي أي انتخابات مقبلة سأختاركم وأصوت لكم. قلت له: عموما.. نحن خرجنا في هذه الثورة بحثا عن العدل، فلو حكمنا نحن فليس أمامنا إلا العدل مع الجميع.
 

الآية الكريمة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم) ليست مستحيلة ولا صعبة التطبيق

ودار حوار باسم مرح بيننا، وأخذ رقم هاتفي وأخبرته بأن هذا مكاننا في الميدان ولا نغيره، فكان يمر علينا يوما بعد يوم نتناقش ونتحاور، وأحيانا يأتي بطعام وشراب ويأكل معنا، وكنت أحدثه عن عدالة المسلمين مع غيرهم طيلة قرون الخلافة، وأكدت له أن الظلم الذي حل ببلاد المسلمين لم يكن إلا لِبُعْد الحكام عن الإسلام ومقاصده، وأن هذا الظلم وإن وقع بعضه على غير المسلمين، إلا أن الحظ الوافر منه كان من نصيب المسلمين.
 

وفي إحدى الجلسات كنت أحدثه عن حقوق غير المسلمين في شريعة الإسلام، فسألني سامر: هل هذا الكلام الذي تقوله لي هو ما تعلمونه للمسلمين في مساجدكم؟ قلت له: طبعا، وبإمكانك أن تتأكد بنفسك.قال: كيف؟ قلت: إذا كنت تقبل، فلتأت وتسمع خطب الجمعة لي في مسجد التيسير بمدينة العبور، وأعطيته عنوان المسجد.
 

وبعد تنحي مبارك، وفي صباح يوم جمعة فوجئت باتصال من سامر يخبرني فيه بأنه سيأتي إلى المسجد في صلاة الجمعة ليسمع الخطبة، وجاء بالفعل وطلبت منه أن يجلس في غرفة الإمام فرفض وطلب أن يجلس وسط المصلين، بل طلب أن يقوم وقت الصلاة في الصف ليفعل مثل المصلين!! ورغم تعجبي، إلا أنني وافقت شرط أن يكون في أحد الأطراف.
 

وحضر لي سامر حوالي أربع خطب جمعة، وبعد كل صلاة يجلس معي أنا وأصدقائي الذين تعرف عليهم أيام الميدان لنتحدث عن أحوال البلد بعد الثورة، وهل نشارك في الفعاليات والمظاهرات التي كانت تدعو لها جهات مختلفة كل فترة، وكنا نتفق أحيانا ونختلف أحيانا،حتى كانت هناك مظاهرة بسبب المسلمات الجدد اللواتي تم اختطافهن مِن قِبَلِ الكنيسة المصرية، فطلب سامر مني أن يشارك رغم عدم مشاركتي فيها لظروف خاصة.
 

ونزل سامر يرفع لافتة تحمل معنى: اتركوا كل إنسان يختار العقيدة التي يريدها. بتوقيع (مسيحي يطالب بالحرية). ورغم ما حدث من لغط أثناء المظاهرة بسبب ظن بعض المتظاهرين أنه مدسوس عليها، إلا أنه كان شجاعا وأصر على الاستمرار في التظاهرة إلى نهايتها، وقد اتصلت بالقائمين على التظاهرة وطمأنتهم من جهة سامر.
 

استمرت العلاقة، وزارني سامر وزوجته في بيتي عدة مرات، ولم تأت فرصة لأزوره في بيته، لكنه طلب مني أن يصطحبني إلى كنيسته الإنجيلية، حيث تقيم احتفالا لبيان ثمرة ثورة يناير التي حققت قدرا كبيرا من الحرية التي تتبناها وتدافع عنها هذه الكنيسة، فوافقت، وفوجئت باستقبال رسمي من مسؤولي الكنيسة، وطلبوا مني أن ألقي كلمة خلال الحفل، وبالفعل ألقيت كلمة عن كون الدين الحق للإنسان لا يظهر إلا حال الحرية، وقابلها الحضور بترحيب وتصفيق حار، واستأذنتهم يخبروني قبل ممارسة أي طقوس خاصة حتى أجلس في مكان آخر حينها، وهو ما تم بالفعل.
 

بعد انتهاء الاحتفال وعند ركوبي السيارة، وجدت نفسي قد نسيت في الداخل بعض الأوراق الخاصة بالحملة الانتخابية للأستاذ حازم أبو إسماعيل، فأخبرت سامر فأحضرها لي، وقلت له: الحمد لله أني تذكرتها خشية أن يظن أهل الكنيسة أنني جئت أدعوهم للإسلام أو لانتخاب حازم. فقال لي: وما المانع في ذلك؟ فتعجبت، فلاحقني بسؤال آخر: صحيح.. متى ستقوم بدعوتي للدخول في الإسلام؟
 

بالمناسبة.. سامر شاب متدين فاهم، يحب دينه وكنيسته التي تربى وتعلم فيها، وسؤاله كان يعني -كما أخبرني بعد ذلك- أن كلا منا يدعو الآخر لدينه. ولأنني كنت أرى أن هذا الأمر يحتاج إلى تمهيد وكسر حواجز وفتح قلوب وأمور أخرى.. قلت له: ليس الآن. فقال: لا بأس.
 

سامر كان يصوت لمرشحي الإخوان في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، وكان من مؤيدي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في المرحلة الأولى لانتخابات الرئاسة، ولا أذكر في المرحلة الثانية انتخب الدكتور محمد مرسي أم أنه امتنع عن التصويت، وعند الانقلاب لزم بيته ولم يشارك في أي فعالية (مع أو ضد الانقلاب)، لكنه كان يتصل بي وأنا في ميدان رابعة ليطمئن عليَّ، وكنت أدعوه لزيارة الميدان وهو يرفض تأثرا ببعض ما كان يشاع وقتها.

أنا وسامر مازلنا نتواصل إلى الآن، يطمئن كل منا على صديقه. هذه القصة ليست رواية، وليس فيها شيء من المبالغة من أجل الحبكة الدرامية، بل كل ما فيها صحيح، وهناك أشياء لم أذكرها خشية الخطأ والنسيان.
 

أجواء الحرية السياسية هي أفضل أجواء تقوية النسيج الاجتماعي، والعكس صحيح حيث القمع والقهر سبب أساس في الصراعات والنزاعات -بل- والحروب الأهلية

ولعل سائل يسأل: لماذا تذكر هذه القصة الآن؟ فأقول: أذكرها الآن لعدة أسباب:-

1- تفصيلا وتوضيحا لمعنى الاصطفاف الذي أبحث عنه وأؤيده كما أشرت إليه في مقالي السابق (ثورة دي ولّا اصطفاف)، وهذا الذي أسميه (الاصطفاف الشعبي) بعيدا عن الابتزاز وسياسة لَيِّ الأذرع التي يمارسها بعض دعاة الاصطفاف اليوم.

2- ذكر مثال واقعي للحياة الاجتماعية بين المختلفين عقائديا، فأنا مسلم سلفي وهو نصراني بروتستانتي.

3- تأكيدا مني على أن الآية الكريمة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم) ليست مستحيلة ولا صعبة التطبيق.
 

4- أجواء الحرية السياسية هي أفضل أجواء تقوية النسيج الاجتماعي، والعكس صحيح حيث القمع والقهر سبب أساس في الصراعات والنزاعات -بل- والحروب الأهلية.

والله من وراء القصد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.