شعار قسم مدونات

أحمد مدحت: أنا بتاع الطب

blogs - doc
بين أحمد مدحت طالب الطب، وبين وطنه الذي عاش فيه وقُتل فيه تشابهاً كبيراً. كلاهما عاش داخل الآخر، وتلونا بلون واحد. حتى لوني قمحي مثل لونك يا مصر. وأحب بعضهما الآخر، وحلما بنفس الحلم: أحمد حلم بأن يصبح طبيباً كبيراً ناجحاً حتى يسعد أهله ويخدم وطنه. ووطنه حلم بأن يكبر أحمد حتى يدافع عنه ويرفع هامته.
ثم تشابها كذلك في النهاية المؤلمة؛ شأن كل عاشقين جمع الحب بينهما، وجمع الانتقام أيضاً بينهما بالخطف والتعذيب والقتل. والخاطف والمعذب والقاتل كان واحداً؛ هو من أوكل عليه الوطن حمايته وحماية أحمد على السواء؛ من رجال الشرطة والجيش، ولكنه خانهما وخطفهما وعذبهما وقتل أحد العاشقين ويُحاول قتل صاحبه. قصة أحمد هي نفسها قصة كل شاب ولد ونشأ وترعرع على حب وطنه وحلم بالوقت الذي يكبر فيه ليصبح فخراً لأهله الذين صبروا من خلفه وبذلوا كل غال وثمين من أجله، وضحوا بكل ما يملكون حتى يحقق لهم حلمهم ويرونه طبيباً كبيراً، ويفخر به وطنه كأحد أبنائه المجتهدين.

أحمد مدحت شاب مصري شاطر، مجتهد في دروسه، ومستقيم في طريقه، وكمثل كل شباب الدنيا يحلم بأن يحقق حلمه في وطنه. حتى ذاق طعم اجتهاده في الحصول على 99 في المائة في الثانوية العامة، وتحقق نصف حلمه، ووضع قدمه على أول الطريق، والتحق بكلية طب جامعة عين شمس، واستمر في الاجتهاد والتحصيل والتعب، ليصعد بقوة على سلم النجاح لخمس سنوات حقق فيها التقدير والتفوق، وازدادت خلالها سعادة أهله؛ هؤلاء الجنود المجهولين الواقفين خلفه، يعدون الأيام ويحسبون الساعات التي تمر عليهم ثقيلة، منتظرين يوم تخرجه لتتحقق أحلامهم، وتكتمل فرحتهم، ويحصدوا ثمرة زرعهم. وها هو يصل للدرجة الخامسة في مدارج الصاعدين، ولم يبق له سوى درجتين يحمل بعدها شهادة التخرج، ويبدأ يستريح قليلاً من تعب طويل، وتنام عينيه بعد سهر الليالي المجهدة.

تم الإمساك به متلبساً وهو غارق في أحلام النجاح وحب الوطن وخدمة المرضى في عيادته!

ولكن كيف يتحقق الحلم، وقد استيقظ يوماً على صراخ وطنه وهو يُخطف ويعلو صراخه وهو يعذب، ثم يعلو ويعلو الصراخ مع كل طعنة وطعنة في قلبه! وأحمد يعتصر قلبه ألماً وحسرة على وطنه الذي كان يتمنى له يوماً أن يراه ككل وطن حر متقدم وجميل. فيعاهده أحمد أن يكمل مشواره ويتخرج، عله يستطيع أن ينقذه ويعالجه ويُوقف نزيفه، ويُضمد جراحه. فيغلق عليه بابه، ويجتهد في دروسه، ويبتعد عن كل ما قد يجلب عليه المتاعب من السياسة والمعارضة.

وبما أن كل شيء في وطنه اليوم خطأ. فلماذا لا يأخذ هو أيضاً نصيبه من هذا الخطأ؟! وما هي إلا أيام حتى اقتحم ضابط شرطة بيته، ويقبض عليه بالخطأ لاشتباه سياسي، وتم الإمساك به متلبساً وهو غارق في أحلام النجاح وحب الوطن وخدمة المرضى في عيادته! ولفقوا له محضراً واتهام بالتظاهر.
ولكنه تنفس الصعداء بعدما يسر الله له وكيل نيابة أدرك بعد التحقيق معه أنه هنا بالغلط، وأنه لا علاقة له بشيء، سوى علاقته بحلمه ووطنه فقط. فأطلق سراحه.
ظن أحمد أن الموضوع كان بالخطأ، وكل بنى آدم خطاء، وعفا الله عما سلف، وانتهى الأمر. ونسي بأن من خطف ولفق وظلم وسجن لا يتوارى من أن يفعل ذلك كل يوم! ومرة أخرى استيقظ على نبأ الحكم عليه غيابياً بسنتين سجن، من قاض وصلت إليه أوراقه بالغلط، فحكم عليه أيضاً بالغلط دون أن يكلف نفسه بالنظر والتدقيق في الأوراق التي أمامه. لم يصدق أحمد أن ما كان يسمع عنه من ظلم وسجن، يحدث معه وهو البعيد عن كل شُبهة، المحبوس بين كتبه، والغارق في حلمه! وأخذ يردد لا. لا .هناك سوء تفاهم، وتشابه أسماء! حتى أكد له المحامي أنه هو المقصود بالحكم، ونصحه بمغادرة الوطن الذي ارتبط به وأحبه. ولكن كيف وقد قارب الوصول من تحقيق حلمه، ووصل للفرقة الخامسة في كلية الطب؟ فأين يذهب؟
نصحه البعض أن يراسل الجامعات الدولية للحصول على منحة دراسية يستكمل فيها دراسته، حتى لا يضيع جهده. ونصحه البعض أن يُقدم استشكال على الحكم الصادر ضده، وخاصة أنه موقن بأن هناك خطأ، ولا شيء عليه. كيف لا وهو لم يشارك في تظاهرة، ولم يمش في مسيرة ضد النظام، ولم يكن في يوم ما منتسباً لأي تنظيم سياسي، أو عضواً بجماعة الإخوان، ولم يٌقبض عليه من الشارع أو الجامعة. وظن أنها سحابة صيف عابرة سريعاً ما تنقشع، وتعود المياه لمجاريها. وهو كذلك يُمنِّي نفسه، ويأمل الخير، ويُطمأنه أهله بأنه لا داعى للقلق، وسيثبت المحامي المكلف بالقضية للقاضي براءة موكله، وينتهي سوء التفاهم هذا؛ فإذا بجند القاتل الساهرين على تلفيق التهم للأبرياء، والقضاء على حلمهم الجميل بالمستقبل، يقبضون عليه من بيته، من أجل تنفيذ الحكم الصادر ضده.

سالت دماؤه الطاهرة حتى ملأت غرفة التعذيب، ثم سلم الروح إلى بارئها وهي تشتكي الظلم والإجرام والوحشية.

وكعادة هؤلاء المجرمون ألا يكتفوا بتسليم من يقبضون عليه إلى محبسه سالماً لحين إعادة محاكمته، والنظر في شأنه، واثبات براءته أو اتهامه مما نُسب إليه! بل قاموا بالتسلية عليه بالتعذيب الوحشي في قسم الشرطة حتى كسروا جمجمته بعد ثلاث ساعات فقط من اعتقاله ، وسالت دماؤه الطاهرة حتى ملئت غرفة التعذيب، ثم سلم الروح إلى بارئها ، وهي تشتكي الظلم والاجرام والوحشية، وتتعجب من إمهال الله لهؤلاء القتلة المجرمين.

ربما تظن أن جلال الدين الحمامصي هو من كتب هذا السيناريو لفلمه الجديد أنا بتاع الطب، بعدما كتب في السبعينات احنا بتوع الاتوبيس لتقديمه للمخرج حسين كمال لإخراجه إلى السينما والتسلية.
ولكنها الحقيقة المرة البليغة التي تكتب قصتها بدمائها، وليست قصة واحدة بل ألف قصة وقصة مؤلمة ومفجعة. يضمها بين دفتيه كتاب وطن تم خطفه وتعذيبه وطعنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.