شعار قسم مدونات

لماذا علينا أن نعلّم القراءة والكتابة عبر الأدب؟

blogs-قصص

لم تكن مفاجئة النسب والأرقام التي أعلنت مؤخرا في الأردن أن 80 بالمئة من طلاب الصفين الثاني والثالث الإبتدائي يقرؤون ويكتبون دون المستوى المطلوب، ولا أعتقد أن معظم الدول العربية الأخرى أفضل حالا. فالدراسات والتقارير العالمية تؤكد أن هناك أزمة عالمية في إتقان مهارات القراءة والكتابة لطلاب الصفوف الابتدائية.

ففي عام 2013، أعلن المركز الوطني لإحصائيات التعليم في الولايات المتحدة أن 64% من طلاب الصف الرابع في الولايات المتحدة يقرؤون ويكتبون دون المستوى المتوقع لأعمارهم أو معايير صفوفهم المدرسية. وبرأيي فإن هذه النسب المخيفة كافية لنتنبأ على أساسها بفشل العملية التعليمية برمتها. لأن أي تعلّم يكتسبه الطالب لاحقا سيكون مبنيا على ما تعلمه في هذه الصفوف الأساسية الأولى ما لم تحصل عملية تدخل علاجية فورية.

أدوات التعليم والمصادر القرائية، فلم تتطور بسرعة موازية لتواجه تحديات العصر، وما زالت تتسم بالتقليدية الجافة

وبالتأكيد فإن أسباب هذه الأزمة متعددة ومتشابكة، وتتداخل فيها عناصر عديدة أهمها: تأهيل المعلمين، وتجهيز البيئة المدرسية والصفية، بالإضافة إلى المناهج وما تتضمنه من معايير ومصادر وموارد إثرائية. وهنا سأختار أن أتحدث تحديدا عن مكون واحد وجزئية محددة وهي تعلم مهارات القراءة والكتابة.

فلا يخفى على أحد أنه ما زالت، حتى اليوم، معظم المؤسسات التعليمية في العالم العربي، تستخدم أنظمة قرائية تضم مقتطفات من نصوص أدبية، ومقالات علمية، وغيرها، يرافقها دفاتر تمارين كتابية. وهي أنظمة لم تتغير منذ أكثر من نصف قرن وإن تغيرت محتويات الكتب وتبدلت أغلفتها.

وهنا، لا يمكن لأي عاقل أن يغفل حقيقة أن بيئة الأطفال ونشاطاتهم خارج أسوار المدرسة قد تغيرت تغيرا هائلا عن الأجيال السابقة، وخاصة فيما يتعلق بالحيز الذي كان مخصصا للاستماع إلى الأدبيات وقراءتها.

إذ بدأ هذا الحيز الذي يعرّض الأطفال للغة، صوتا وصورة، يتضاءل تدريجيا منذ ثلاثة عقود حتى كاد يتلاشى اليوم. أما أدوات التعليم والمصادر القرائية، فلم تتطور بسرعة موازية لتواجه تحديات العصر، وما زالت تتسم بالتقليدية الجافة.

وهنا أيضا يكمن التحدي الأكبر لجميع العاملين في مجال التعليم من تربويين ومعلمين ودور نشر ومؤلفين ومكتبيين، ألا هو، تطوير أدوات تعلّم مهارات القراءة والكتابة لتواكب تطورات العصر وتغيراته بالسرعة المطلوبة.

وبرأيي، فإن هذه الأزمة تزداد تعقيدا لوجود عامل هام لا يمكن تجاهله في مدارسنا وثقافتنا؛ وهو النظر إلى عملية التعليم واجتياز الامتحانات المدرسية والحصول على الشهادة كهدف بحد ذاته وليس كوسيلة.

وتعلّم مهارات القراءة والكتابة يقع تحت مظلة هذه النظرة، فيُنظر إلى إتقان مهارات القراءة والكتابة وتعلمها كهدف لفك التشفير والترميز، وفهم النصوص واستيعابها بهدف اجتياز الامتحانات المدرسية، بدل أن ننتجاوز ذلك لما هو خارج الأسوار الأكاديمية، كي تكون هذه المهارات وسيلة لصناعة طلاب قادرين على التعلم الذاتي، يسعون للمعرفة والعلم سعيا طوعيا مستقلا. فتكون مهارات القراءة والكتابة هما الوسيلة الأساس لتعلم كافة العلوم والفنون الأخرى على وجه مهني محترف راق معاصر مستدام.

إن التجارب الميدانية المعاصرة الناجعة عند الأمم الأخرى، كما الدراسات أو الأبحاث في هذا المجال، جميعها تؤكد أن استخدام الأعمال الكاملة من أدب الأطفال والناشئة من الصفوف الأساسية الأولى بشكل إثرائي مكثف في برامج القراءة المدرسية، من شأنه أن يساهم إسهاما إيجابيا ملموسا قابلا للقياس في رفع مستوى مهارات القراءة والكتابة لدى الطلاب خلال فترة زمنية معينة.

لا تستطيع جهة واحدة أن تكون هي المؤلف، والمدقق، والرسام، والناشر، ومؤهل المعلمين، ومشرف الامتحانات، ومسؤول تنظيم قطاع التعليم

لماذا الأدب؟ لأن الإنسان بطبيعته حكاء قصّاص راو، يحب القصص ويستمتع بها مما يجعله يتعلم أفضل من خلالها. ولأن الأدب هو الحبل الذي يصلنا بأفضل العقول التي عاشت عبر التاريخ وأكثرها حكمة وفصاحة وعلما وخيالا ورقة وذوقا وجمالا.

ولأن الأعمال الأدبية تسجل عمق التجربة الإنسانية وارتفاعها، وتعزز القيم الإنسانية العالمية بتثقيف العقل والقلب معا. ولأنه عبر قراءة الأعمال الأدبية الموجهة والمعدة للأطفال والناشئة تنشأ روابط مهمة وقوية ومعقدة بين القارئ الصغير والكلمة المكتوبة، أهمها استجابته العاطفية لها.

يقول عالم النفس اللغوي فرانك سميث:" إن مدى الاستجابة العاطفية للنصوص التي تقدم للطلاب هي السبب الأول الذي يجعل القارئ يريد ان يقرأ أو لا يريد، وكلما ازدادت هذه الاستجابة ارتفعت معها الرغبة للإقبال على القراءة وتعلم مهاراتها."

لا يمكننا أن نصر على تهميش أدب الأطفال وعدم السماح له بلعب دوره الكامل والطبيعي في تعليم أبنائنا. ولا يمكننا أن نستمر بتقديم نصوص تحشو عقولهم بالحقائق والمعلومات ونغفل عن تغذية قلوبهم ونفوسهم، ومراعاة ما يستمتعون به.

عصر اليوم هو عصر الاختصاص، فلا تستطيع جهة واحدة أن تكون هي المؤلف، والمدقق، والرسام، والناشر، ومؤهل المعلمين، ومشرف الامتحانات، ومسؤول تنظيم قطاع التعليم.

والنماذج المتبعة في البلدان التي تحتل المقدمة في امتحانات التحصيل القرائي العالمية (بيرلز) تعتمد على شراكة حقيقية بين وزارات التربية والتعليم كحام لتحقيق معايير التعليم الوطنية، والمؤسسات المعنية الأخرى، كالمكتبات العامة، ودور النشر المتخصصة، والكتّاب والؤلفين، ومؤسسات تدريب المعلمين، ومراكز الأبحاث التربوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.