شعار قسم مدونات

سياسة الإنستحرام

blogs - isl
ورد في طرائف العرب، أن شيخا سُئل عن حكم بيت أهرق فيه الخمر، فقال: يهدم، ثم أخبِر أنه بيت الخليفة، فقال: وفي مذهب آخر يغسل. إن ما دفع الشيخ ليغسل بيت الخليفة، هو ما يدفعنا كل يوم لقراءة فتاوى جاهزة، توزع داخل إطارات وردية منمقة، وبعضها الآخر يصدر من دون مكياج خارجي، فأصحابها لا يهمهم الشكل بقدر ما يجذبهم المحتوى.

لا يخفى على أي متتبع للساحة الدعوية، أنها تعج بفوضى عارمة على مستوى إصدار الأحكام وتنزيلها، والاندفاع نحو تخطيء الآخر، والزج به في زاوية الزلل، مع العلم أن الأمر في شريعتنا إذا ضاق اتسع، ولكن يأبى أصحاب العمائم الفارغة إلا أن يوسعوا بلفظة "حرام"، فهي تريح من القيل والقال، وتجلب راحة البال!

إن كل ذي بال يفهم إشارات الشريعة، يعلم أن الحرام هو آخر ورقة يستعين بها العالِم لمواجهة النوازل المستجدة، فالأصل في الأشياء الإباحة.

قد نتقبل الأمر حين يكون الجنوح إلى التحريم صادرا من شاب حديث عهد بالالتزام، إذ تغلب عاطفته على عقله، فيندفع لتحريم أمر معين، أما أن يُلصَق التحريم، على جبين شيخ أفنى عمره بين المجلدات، وقلب المسائل على وجوهها، فهذا لا يكون له تفسير إلا الحمق الممزوج بالشهوة، فعوض أن يبحث المفتي في المسألة عن مقصد الشارع، صار يفتش في مراد المستفتي، هل يروم تحليلا أم تحريما. ومن رحم التساؤلات التي تبحث في كل شيء، نشأت فوضى الأقوال الفقهية، التي تنسج العقد عوض حلها، حتى صرنا نسمع للقضية الواحدة عشرة أوجه في التحريم، ليس لاختلاف الأقوال أو تنوع النصوص، بل لأن عدسة المفتي الضيقة لم تلتقط إلا السواد.

لقد باتت الفتاوى تأتي على مقاسات المستفتين، ومن جمال المصادفات، أنه كلما زاد شأن السائل، زادت رداءة الفتوى، وامتلأت من كل شيء إلا الصواب، فلا تنتظر من مفتي الشام إباحةً، حين يسأله بشار عن حكم التظاهر في الشوارع، ولا تأمل خيرا من مفتي الديار المصرية، وهو الذي رقصت فتاويه فوق جثت الأبرياء، وفضل لقمة السيسي على نصرة الحق، ولا تحلم أن يبيح المصنع السعودي حكما حرمه هؤلاء.

إن كل ذي بال يفهم إشارات الشريعة، يعلم أن الحرام هو آخر ورقة يستعين بها العالِم لمواجهة النوازل المستجدة، فالأصل في الأشياء الإباحة، حتى يأتي دليل على تحريمها، وليس تحريم كل مباح حتى يرد دليل لجوازه، فالشريعة قد اكتملت والاجتهاد في دائرة المباح خير من إفراغ الوسع للوصول إلى التحريم، فهذا الإمام مالك جاءه رجلاً من العراق محملا بأسئلة كثيرة، فأجابه عن بعضها وأمسك عن بعضها الآخر، فقال له السائل: ماذا أقول لقومي، فقال له: قل لهم إن مالك لا يدري. ولحسن الحظ أن السائل لم يأت في زماننا، وإلا لرجع إلى قومه مرددا "إن فلان يعلم ما لاتعلمون!".

وعلى غرار القاعدة الشهيرة "الحكم عن الشيء فرع عن تصوره"، فإن تلة من فقهاء المزاج أخذوا يوزعون فتاوى التحريم وفق ما تصوره عدسة أهوائهم، وما ترسمه ميول سائليهم، يحبون ضيق اللحظة الآنية، ولا يؤمنون بالنظرة الشمولية، يختارون من بين آلاف الأقوال أنسبها للحكم، حتى لا يتضرر السائل، فتتشوه الصورة ولا يحصلون على لايك! إنها سياسة الإنستحرام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.