شعار قسم مدونات

موت بين موتين

blogs - halab
أتأمل ملامح الأطفال الخارجين من تحت الأنقاض، أتفحَّص نظرات عيونهم لأرى فيهم الخوف الذي ودَّعوا به الدنيا إلى بارئها، أدقِّق في ثيابهم الممزَّقة وجروحهم المبعثرة على أجسادهم الصغيرة لأرى فيهم بؤسنا الذي عاشوا به سنواتهم المعدودة، أرى فيهم تجلِّي يوم القيامة حين ترد المظالم إلى أهلها، وأتساءل، من هم أهل مظلمتهم؟
 

أرفع عيني قليلا لأرى صاحب الكفين الذي يحمله.. أتأمل الجفاف الذي أصاب مقلتيه، وأبحث في ملامحه عن علامات تدل على حياة قلبه أو وجوده أصلا! لماذا لا يبكي وتحت قدميه كل أسباب البكاء؟ لماذا لا يصرخ في الناس وهذه الأنهار تجري من تحته؟ هل صدقت فيه نظريات فلاسفة الإعلام وتبلدت مشاعره؟ أم تراه يموت ألف مرة دون أن ندري!
 

أجبر نفسي على المتابعة، فأنا منهم وهم مني، فأراني وقد هربت من موت الإبهام لموت العين، فمن ذا الذي يرى حلب ولا يموت؟

أطأطئ رأسي خجلا، أو ربما عجزا.. لن تفيد الأسباب والمعاني، فالمهم أن أطأطئ رأسي لأرى من أين جاء الصغير؟ هل كان في غرفته نائما! يلعب! يأكل! أو يرسم على ورقة بعض أحلامه! ليس المهم ماذا كان يفعل الصغير، فربما أنسته الحرب تلك الحيوات أصلا، أو أنست أمه كيف تعلمه إياها، المهم هل كان وحيدا في بيته الذي كان بيتا؟ تُرى أله إخوة صغار مثله تحت هذا الركام؟ أهم بين الحياة والموت، أم فاضت أرواحهم كذلك مع ذويهم؟ لو كانوا على قيد الحياة.. تُرى ماذا يجول في خاطرهم هناك بين الدم والتراب؟ لربما كانوا يبحثون عن هذا الصغير ليمسحوا عن وجهه بعض الغبار ويهدئوا من روعه.
 

لو حاولتُ التجول أكثر فيما سجلت كاميرا التلفاز من تفاصيل لرأيت للموت معاني أكثر، وملامح أكثر، ولكني اكتفيت.. فاكتويت بموت آخر!
 

موت يسببه الإبهام إن تجرأ على الزر الأحمر في ريموت التلفاز، أو حتى قلَّب بين القنوات باحثا عن فيلم يقتل الوقت ويزهق روح الصمت القادم من حلب.. حلب التي لا تحتاج لشيء أكثر من الصمت!
 

أجبر نفسي على المتابعة، فأنا منهم وهم مني، فأراني وقد هربت من موت الإبهام لموت العين، فمن ذا الذي يرى حلب ولا يموت؟ أتخيل نفسي حلبيا، فلا أتخيلني إلا محتارا بين الموت بالرصاص أو الصواريخ والبراميل المتفجرة أو واقفا على الأطلال والأشلاء أو غريقا! تُرى هل يختار الحلبيون نهايتهم أم خانهم الوقت كما خناهم؟
 

المقال يقول لك "لا تختزل الموت في صورة"، وتأمل المشهد الكلي لتعرف أن حالنا يحتاج أكثر من مشاعر لحظية.. وفقط!

لست حلبيا على كل حال.. ولكن ما حال أهل حلب في غربتهم، أتراهم كحجارة حلب يتألمون؟ أم كباقي البشر قست قلوبهم فهي كالججارة أو أشدُّ قسوة! هل يؤلم القذى الناتج عن قصف المنازل عيونهم! أيخنقهم الغبار؟ هل يموتون مع كل موت في الشهباء.. أو ما بقي منها؟
 

حلب.. مدينة الموت، في سوريا الموت التي لا نرى منها إلا ما أُريد لنا.. في "مقبرتنا العربية" التي لا مكان فيها لشيء غير الموت، وكأن الموت فيها يزاحم الموت.. فترى موتا بين كل موتين.
 

موت في العراق، وموت في سيناء، وبينهما موت على متن زوارق الهاربين منهما.
موت في السودان، وموت في غياهب السجون أو الفقر، وبينمها موت بأسمدة الطعام الملوثة.
موت في فلسطين، وموت في بورما، وبينهما موت على المشانق.
موت في اليمن، وموت الصومال، وبينما موت مخيمات النازحين واللاجئين.
 

يتساءل الناس دوما؛ لماذا تفيض مشاعرنا تجاه موقف ما ثم ينتهي مع انتهاء الحداد عليه؟
والجواب باختصار هو اختزالنا لمشاهد الموت في صورة واحدة.. هذا المقال لا يقدم لك أي نصيحة يمكن أن تفيدك في التعامل مع الأحداث الجارية في منطقتنا، فهي أكبر مني ومن كلماتي تلك، ولكنه يقول لك "لا تختزل الموت في صورة"، وتأمل المشهد الكلي لتعرف أن حالنا يحتاج أكثر من مشاعر لحظية.. وفقط!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.