شعار قسم مدونات

اللعب مع الخسران في الحياة.. وكرة القدم!

blogs - bielsa

خسر بالخمسة في إحدى السنوات رفقة فريق النيو أولد بويز، عاد إلى بيته وأغلق باب غرفته، وانخرط في البكاء، بكاء شديد متواصل لا يتوقف، لدرجة أن زوجته التي لا تفضل الدخول في تفاصيل الكرة مثله لاحظت الأمر، وجاءت له لتحاول أن تقلل من الأمر، ثم سألته بشكل قاطع، ماذا أنت بفاعل؟
 

قال والدموع لم تجف من عينيه "سأظل محافظا علي فلسفتي، ولن أتراجع أبدا ما حييت"، يحكي مارسيلو بييلسا عن أصعب موقف مر عليه خلال مسيرته الطويلة مع كرة القدم، ليصف رحلته بأنها مسألة مبدأ، شعاره فيها ثابت مهما كانت المعوقات، لا تراجع ولا استسلام.
 

بييلسا ترك إرث كروي حقيقي وجوهري، من خلال تأثيره على التكتيك باللعب العمودي المباشر والرغبة في تسجيل الأهداف من مختلف الفرق الكبيرة

يقول المدرب عن فلسفته في اللعبة "أنا عاشق للعب السريع والنقل الخاطف للكرة من مناطق الدفاع إلى الهجوم، لا أعرف لماذا لكن يمكن القول لكوني غير صبور، وربما السبب لأنني أرجنتيني"! ثم يسكت قليلا ويضيف، "إن كانت كرة القدم تدار بالآلات لكنت أفضل مدرب في التاريخ"، في إجابة ساخرة على من يتهمه دائما بأنه يبحث عن "الشو" لا البطولة.
 

يشكك الكثيرون في مارسيلو وتبدأ الأسئلة من نوعية، لماذا لم يحصل على بطولات عديدة؟ كيف لم يدرب أي نادي أوروبي عملاق؟
والإجابة على لسان بييلسا حينما قال "إذا كان عليً الاختيار بين الألقاب، المال والأحاسيس فسأختار الأخيرة. مكافأة كرة القدم ليست فقط بالمال والألقاب، إنها القدرة على إثارة العواطف التي تربط الفريق بالمشجعين".
 

ونقلا عن صحف ذات مصداقية قوية كـ "ليكيب الفرنسية"، فإن المدرب تلقى عرض من ريال مدريد في 2004 بعد رحيل كاماتشو، لكن اللوكو رفض الذهاب إلى إسبانيا، وفضل البقاء في الأرجنتين وأميركا اللاتينية، كذلك كان قاب قوسين أو أدنى من قيادة برشلونة بعد حقبة غوارديولا، إلا أنه فضل الاستمرار في الباسك.
 

كرة القدم ليست مجرد أرقام أو بطولات، صحيح أن تاريخ هذه اللعبة يهتم أكثر بالفائز، لكن الكتب والمراجع وقلوب العشاق ترتبط أكثر بالطريقة والأسلوب، لأن النتائج في النهاية غير قابلة أبدا للنقاش، فنحن نناقش فقط العملية وكيفية إدارتها، وبالتالي فإن اللوكو "لقب بييلسا" ترك إرث كروي حقيقي وجوهري، من خلال تأثيره على التكتيك باللعب العمودي المباشر والرغبة في تسجيل الأهداف من مختلف الفرق الكبيرة، بالإضافة إلى تأثيره على عديد المدربين في الزمن الحالي.
 

ولنا عبرة بهذا الأسبوع، بعد فوز سيلتا فيغو على برشلونة بنتيجة أربعة أهداف مقابل ثلاثة، مع هزيمة مان سيتي على يد توتنهام بهدفين دون رد، في جولة تفوق فيها باقتدار هذا الثنائي الأرجنتيني، إدورادو بيريزو في إسبانيا، وماوريسيو بوكتينو بإنجلترا، والمفارقة الأبرز أنهما من تلاميذ بييلسا، أيام تدريبه بأوائل التسعينات بالأولد بويز.
 

عمل بيريزو كمدرب مع بييلسا في منتخب شيلي، رفقة سامباولي، فيفاز، وتورينتي والبقية، وتعلم الكثير من الأستاذ الذي نصحه بالذهاب إلى إسبانيا وتولي مسؤولية فيغو. بينما حصل بوكتينو على أول درس تكتيكي عندما التحق بالفريق والمنتخب الذي يدربه المجذوب عدو البطولات كما يصفه أشد كارهيه، ليقول عنه فيما بعد عندما نجح رفقة السبيرز "هذا الرجل هو أكثر شخص في العالم يفهم كرة القدم، لقد غيًرني من الألف إلى الياء، وجعلني أتقبل التكتيك من كافة جوانبه".
 

يُحسب نجاح سيلتا وتوتنهام إلى مدربيهم، لكن هناك جانب أيضا لمارسيلو بييلسا، لأن هذه الفرق تلعب وفق رؤيته وفهمه للكرة، من خلال الضغط العالي القوي في نصف ملعب المنافس، ومحاولة الحصول على الكرة سريعا، لتنفيذ مرتدة قاتلة بأقل عدد ممكن من التمريرات، مع خنق الخصم بإجباره على نقل الهجمة بعشوائية بسبب إغلاق كافة زوايا التمرير أمامه.
 

ينظر بييلسا إلى الكرة بنظرية فلسفية مغايرة، وطالما أنه لم ينجح من منظور الأكثرية، سيظل مجنونا في أحكامهم وجلساتهم.

يبدأ النجاح من إبعاد الكرة عن مرمانا ونقل الخطورة إلى المرمى المقابل، طالما أن الهجمة لا تضرنا فإننا في الطريق الصحيح، هذه هي أول وآخر قاعدة يتبعها اللوكو، ويبدو أنه نجح في إقناع طلابه بها، فذاكروا الدرس جيدا وفازوا على عمالقة أوروبا هذا الأسبوع.
 

رفض بييلسا تدريب الأرجنتين مؤخرا، وفسخ عقده مع لاتسيو من طرف واحد، وامتنع عن عروض عديدة من فرق بأوروبا وأميركا الجنوبية، حتى إنه لم يوافق على عرض الأخضر السعودي رغم المبلغ الفلكي المعروض عليه، كل هذا ليس لحسابات المكسب والخسارة، بل لأنه ينظر إلى الكرة بنظرية فلسفية مغايرة، وطالما أنه لم ينجح من منظور الأكثرية، سيظل مجنونا في أحكامهم وجلساتهم.
 

لا أعلم لماذا أربط دائما بين بييلسا وكابتن فارس بطل فيلم "الحريف" للمخرج الراحل محمد خان، وكلما حاولت توقع وجهة مارسيلو القادمة، فإنني أقف عاجزا على تحديد البوصلة، حتى أتذكر أعظم مقولة في تلك الرائعة السينمائية، حينما قال البطل في مشهد النهاية "أنا هلعب مع الخسران يا رزق"، في إشارة واضحة على تحديه لكافة الأعراف الطبيعية، ووقوفه في صف الأضعف والأقل بريق، لذلك سأظل في انتظار الخاسر الذي سيختاره المجًدف في لعبته الأخيرة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.