شعار قسم مدونات

حين بدأت القراءة

blogs - reading
سنوات طفولتي ومراهقتي الأولى، كانت بلا تلفاز. نعم، كبرت وأول ما عهدته لهذا العالم، كان من خلال التسجيلات الصوتية والمرئية لشركة سفير في القاهرة، وشرائط شركة سما التي كانت تحضرها أمي خصيصا من السعودية، حتى ذلك اليوم الذي لاحظت فيه أمي حفظي لسورة المجادلة كاملة سماعيا، خلال جلسات تسميع أخي للقرآن أمامها، وأنا ابنة العامين والنصف، حينها بدأت رحلتي مع القرآن، حتى انتهيت من حفظه وأنا ابنة ثمانية. بين صفحات القرآن، ومسابقات الحفظ والتجويد، وجلسات الخميس والجمعة في المراجعة، وقصص الأنبياء، ورجال حول الرسول، ورياض الصالحين، قضيت معظم سنوات مراهقتي.

 

يجب أن نبحث ونتساءل فيما أتيح لنا السؤال عنه، ونترك ما لا يبدو لنا قيد التسليم المطلق، نؤمن به لإيماننا بأن خالقنا لم يخلق شيئاً في هذا الكون عبثاً، أو صدفة.

كبرت وتخرجت من الثانوية، والتحقت بإحدى الجامعات في مصر، وانقطعت عادة الخميس والجمعة في مراجعة القرآن، وانفتحت أبواب أخرى لم أعهدها في السابق، وانخرطت في العمل الخيري، ولكن في بلد لم أعش همومها يوما. بدا كل شيء لي غريب هنا في مصر، حتى كانت ثورة يناير التي تغير معها كل شيء داخلي وحولي. حدثت ثورة يناير وحدث معها أول قراءة لي في كتب السياسة والتاريخ والأدب. ما زلت أذكر أول كتاب لي، كان "أفتوكالايزو" للكاتب الصحفي أسامة غريب، أذكر لهفتي وأنا أقرأ الكتاب، والعلامات التي كنت أضعها عند كل موضع أجد فيه ما يثير انتباهي، أو ما أود القراءة باستفاضة عنه فيما بعد. على الرغم من كم الانتقادات التي واجهتها من حولي؛ لاختياري هذا الكتاب كبداية، ولكن أراها بداية مثمرة؛ فلولاها ما تعرفت على الشهيد علاء أبو دهيم، والكاتبة التي بحسب ما وصفها أسامة غريب من أفضل كتاب مصر، دكتور هبة رؤوف عزت، والملحن الجدير بالتذكار رؤوف ذهني.

بعدها بدأت موجة قراءتي ولهفتي لمعرفة كل ما كتب في جميع المجالات، وقد كانت مكتبة أبي وأمي خير عون لي، استخرجت منها كل ما قد أحتاجه من الكتب، وقد ذهلت حين وجدت كتبا ليوسف إدريس، ونجيب محفوظ، وغيرهم كثر، لم أعهدها من اهتمامات أبي وأمي أبدا، خاصة وأن أمي دائما ما تردد على مسمعي "من الكتب الدينية ستكتشفين وتفهمين كل شيء حولك."

يقول العقاد:"ليس هناك كتابا أقرأه ولا أستفيد منه شيئا جديدا، فحتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته، أني تعلمت شيئا جديدا، هو ما هي التفاهة؟ وكيف يكتب الكتاب التافهون وفيم يفكرون." كنت أقرأ كل شيء وأي شيء قد أجده أمامي، وإن كان صفحات معدودة، بداية من رسائل مركز الدراسات الإسلامية ببريطانيا، الذي لا تتعدى صفحات إحدى كتبها "هل عرفتم حقيقة حكامكم؟" الثمانية وأربعون صفحة، وكتب كسلسلة يوميات قادة العدو، وكتب سعيد الجزائري "المخابرات والعالم" والغزالي، وأحمد ديدات، وزيبا، وهيجو وغيرهم..

وقد كان أشدها تأثيرا على مسمعي وفؤادي وعقلي، كتب الرافعي. تعلمت معه الحب والارتجال، والشعر والخيال، والسمو الفكري والروحي، وكيف أرى ما حولي، كنت أمضي وقتا مع شيخ اللغة العربية خلال الجلسة الأسبوعية، وأنا أقرأ على مسمعه شعر من رسائله ورسائلها "أوراق الورد" ذلك الكتاب الذي لا تخلو صفحة فيه من علامة. وقد استغرق مني هذا الكتاب أسبوعا أو يزيد، حتى استطعت الانتهاء منه.
 

بالقراءة وحدها يستطيع الإنسان أن يخلق أكثر من حياة، فمتى أحسنت التذوق واختيار الكلمات وتخيل الأحداث، أحسنت رسم الصورة والذكرى.

مع الرافعي، تعلَّمت التأدُّبَ مع كل شيء، توسع فكري، وتوسعت دائرة اهتماماتي، وانتظمت قراءاتي. بعد كتب مصطفى محمود، وبيجوفيتش، فقد تعلمت منهما المنهج الصحيح في التفكير، واستراتيجية العودة بالأصل للأشياء؛ لمعرفة ماهيتها والحكم عليها، والفلسفة الهادفة غير المعقدة. تعلمت أن العداء الحقيقي، هو عداء النفس، وأن وفاق النفس هو مفتاح الوفاق مع الخالق، وأن الأزياء ما هي إلا تقييد للمرأة، وأن الثراء مخيف؛ لأنه لن يتوقف، وليس له حدود، وقد يبدأ بالمال، وينتهي بالذمم والضمائر. وأن سر تخلفنا ليس حضاري، وإنما روحي، وأنك إذا أردت أن تعيش بكامل وجودك، فعليك أن تتقبل كل ما هو حولك، وأن الحياة الحقيقية هي في المشاركة، وأن أهم بل وأسمى أنواعها، هو تشارك الرجل والمرأة لبناء حياة، وليست في الانفرادية التي طالما دعا لها الغرب.

وأن الحرية الحقيقية، هي في القدرة على التغلب على العقبات. وأن أسوأ أنواع العبودية الروحية، التي أنتجها العصر الحديث، هو التلفاز. وأن للطبيعة حتمية تحكمها، فما يخص الإنسان فيها محدود بتنظيمها ومعرفة كيفيتها، وأنه عاجز عن فهم ماهيتها. وأننا يجب أن نبحث ونتساءل فيما أتيح لنا السؤال عنه، ونترك ما لا يبدو لنا قيْدَ التسليم المطلق، نؤمن به لإيماننا بأن خالقنا لم يخلق شيء في هذا الكون عبثا، أو صدفة، وأن التسليم لله هو انعكاس لقوة النفس، ومدى تقبلها لواقعها، وقدرتها على مجاهدته وتحمله، وأن العقيدة الصحيحة ليست لها علاقة بالسلوك؛ فالسلوك نتاج التنشئة والمواقف الحياتية، والخبرات التي مر بها الإنسان، وأن متى أحيا الناس الدين إحياء خالصا، قامت الثورة بداخله وحوله. وأن الكون مسير بطاقتك، لذا فكل الأماني جائزة، ولا وجود لمستحيل.

وبالقراءة للدكتور علي النجار، من خلال إصدارات دار المعرفة، دخلت عالم الاقتصاد، في محاولة بسيطة لفهم الفرق بين الريع، والربح، والمضاربة. ثم تبع ذلك محاولة أشمل للدخول إلى هذا العالم، وفهم مشاكله وعقباته. فتبع ذلك القراءة لمالك بن نبي في كتابه المسلم في عالم الاقتصاد، والكاتب آدم سميث الأسكتلندي في ثورة الأمم، والذي يعتبر أبو الاقتصاد الليبرالي في العصر الحديث، وتلك كانت البداية.
 

وأقول وإن كنت ألقي عليك قولا ثقيلا، لم تكن التجربة سهلة أبدا، فأن تمضي وقتا بصحبة كتاب، وتقرأ صفحة يليها الصفحة، في كتاب قد لا يفهم مغزاه، حتى تصل إلى منتصفه، أو كتاب آخر قد تجده كثير التفاصيل، ولكنه غزير في المعلومات. ولكن أستطيع القول بأن خلاصة التجربة، أنك إن أردت أن تصبح قارئا، يجب عليك أن تحدد لك منهجا في البداية، حتى لا تمل أو تصبح قارئا بلا قيمة. والمنهج لا يتحدد إلا بعد معرفة الكاتب، ونبذة مختصرة عنه، وعن كتبه، وماذا يريد من هذا الكتاب، ولا أنصح أبدا بقراءة أي تعليق أو آراء عن الكتاب قبل البدء فيه، حتى لا تتكون صورة ذهنية ورأي مسبق يغلب على فهمك واستيعابك للكتاب وأنت تقرؤه، وأن الأفضل أن تترك لنفسك العنان لقراءة الكتب واستيعابه، حتى وإن صعب عليك بعض مفرداته أو أحداثه، فكما الصبر لا يأتي إلا بالتصبر، فالفهم لا يأتي إلا بالتفهم.
 

سر التميز هو في هدف تضعه نصب عينيك، تؤمن به، وتلتزم به، حتى وإن لم تتضح الرؤية تماما من البداية.

يقول الرافعي: "ألا إنه بالحب وحده يحيا الإنسان أكثر من حياة." وأقول أنها تجربة إنسانية، وأن بالقراءة وحدها يستطيع الإنسان أن يخلق أكثر من حياة، فالحياة تفاصيل، وسر تميزها الصورة والكلمة، فمتى أحسنت التذوق واختيار الكلمات وتخيل الأحداث، أحسنت رسم الصورة والذكرى، وكل ذلك لا يتأتى إلا بطول عهد مع القراءة والصبر عليها.
 

علمتني القراءة كيف أفصِل بين الكاتب والمكتوب، وأن أبدأ القراءة بذهنٍ مستعد لمصافحة الكلمات، حتى وإن اختلفت مع قارئها. في كتاب "معك" لزوجة طه حسين الفرنسيِّة، تقول سوزان على لسان زوجها: "إننا لا نحيا لنكون سعداء، بل لأداء ما طلب منا." سوزان التي أحبت طه الكفيف المسلم، وعايَشته لأكثر من ست وخمسين عامٍا، كانت تقرأ له ما تعرفه وما لا تعرفه عن العالم، بجميع الألوان، بداية من لغتها الأم الفرنسية، إلى الإيطالية، إلى اللاتينية، في الأدب، والجغرافيا، والتاريخ، وأشياء لم تكن لتعرفها أو تبحث عنها سوزان لولا طه!

بالرغم من امتعاضي الشديد، وأنا أقرأ بعض السطور وخلفيتي الدينية التي تسيطر على أحكامي لكلماتها، وبالأخص ما يتعلق بالانفتاح الأوروبي على مصر، وعلاقتها المتميزة بهدى شعراوي، صاحبة دعوى خلع الحجاب، إلا أنها تجربة فريدة وصادقة، لم تتكَرَّر كثيرًا على مدار التاريخ، وقد تعلَّمت منها إذ لولا أعداؤك لما كنت لتنتبه للمهمة الملقاة على عاتقك.
 

علمتني القراءة، أن سرّ التميًّز هو في هدف تضعه نصب عينيْك وتؤمن به، وتلتزم به، حتى وإن لم تتضِّح الرؤية تماما من البداية. لا أتخيل تلفازا أو اصطفافا في زحام الطريق، أو علاجا لموجات حزن متقلبة، دون كتاب. وأقول صدقًا، بأني لم أهدر وقتا بصحبةِ أي كتاب قرأته، على العكس تماما، فشغفي بالقراءة دائما يبدأ وأنا دائما في أولّه، حتى يحين اللقاء بربِّ القلم والعباد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.