شعار قسم مدونات

قد يرفض الشعب مصالحتكما

blogs - turkey
رفض الكولومبيون في الاستفتاء الشعبي الذي أجري الأحد الماضي اتفاقية السلام بين الحكومة الكولومبية وحركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك" اليسارية، على الرغم من توقع جميع استطلاعات الرأي تصويت الأغلبية لصالح قبول الاتفاقية.

كانت النتيجة مفاجئة وصادمة لطرفي الاتفاقية، حيث صوَّت 54،24 بالمائة من الناخبين الكولومبيين ضدها، ونشرت وسائل الإعلام العالمية تقارير تتناول هذا الحدث تحت عناوين، مثل: "الشعب الكولومبي رفض السلام" أو "الناخبون في كولومبيا قالوا لا للسلام" أو "الكولومبيون اختاروا مواصلة الحرب" أو ما شابهها.

ملف عملية السلام الداخلي التي أطلقتها الحكومة التركية قبل الربيع العربي وتغير التوازنات الإقليمية أغلق مع إنهاء حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار.

الكولومبيون الذين صوَّتوا ضد الاتفاقية مستاءون من هذه العناوين، ويقولون إنهم لم يرفضوا السلام، بل رفضوا أن يفلت الإرهابيون من المحاسبة لمجرد الاعتراف بجرائمهم وأن تبقى الجرائم بلا عقاب، ويضيفون أنهم لن ينسوا ما ارتكبته الحركة من جرائم بشعة طوال السنين كتجارة المخدرات وخطف عدد كبير من المدنيين العزل وقتلهم وتجنيد الأطفال في القتال. ويرى مراقبون أن مشاعر الكره والعداء التي ضخ الطرفان خلال سنوات القتال في صفوف أنصارهما لعب دورا في خروج هذه النتيجة من صناديق الاقتراع.

وفي تركيا، كانت الحكومة أطلقت عملية للسلام الداخلي لإنهاء الصراع الدموي بين حزب العمال الكردستاني وقوات الأمن التركية. وقطعت مسيرة السلام شوطا لا بأس به، إلا أن الظروف الإقليمية دفعت حزب العمال الكردستاني إلى قلب طاولة المفاوضات والعودة إلى القتال.

الحكومة التركية بذلت بعد إطلاق عملية السلام الداخلي جهودا كبيرة لإقناع الشارع التركي بقبول فكرة المصالحة مع حزب العمال الكردستاني. وشكّلت لجنة للحكماء تتألف من شخصيات معروفة من الكتاب والمثقفين والأكاديميين والفنانين لتسهيل تقبل العملية من قبل الأتراك والأكراد واقتناعهم بضرورة المصالحة. وكانت نسبة التأييد الشعبي آنذاك لجهود عملية السلام الداخلي عالية، على الرغم من معارضة القوميين واتهامهم للحكومة بتقديم تنازلات كبيرة للإرهابيين الانفصاليين.

ملف عملية السلام الداخلي التي أطلقتها الحكومة التركية قبل الربيع العربي وتغير التوازنات الإقليمية أغلق مع إنهاء حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار، وتبخرت أجواء التفاؤل والهدوء التي خيَّمت على تركيا في تلك الفترة مع عودة التفجيرات والاشتباكات والهجمات الإرهابية إلى المشهد من جديد.

وبعد أشهر من القتال ضد قوات الأمن التركية وقتل المدنيين العزل بعمليات إرهابية ارتفعت أصوات تطالب باستكمال عملية السلام الداخلي من حيث توقفت، إلا أن ذلك لا يبدو ممكنا في ظل الرفض الشعبي الواسع لمثل هذه الخطوات. ولو أعلنت الحكومة التركية اليوم التوصل إلى اتفاقية للسلام مع حزب العمال الكردستاني وعرضت تلك الاتفاقية على الاستفتاء الشعبي لرفضتها الأغلبية الساحقة، بسبب الجرح العميق الذي فتحته العمليات الإرهابية في جسد المجتمع التركي.

تحقيق السلام مهم وغاية سامية، ولكن التمسك بالثوابت والحقوق، وتحقيق العدالة لينال المجرمون ما يستحقون من العقاب في هذه الدنيا قبل يوم الآخرة لا يقل عنه أهمية.

وفي فلسطين، هناك جهود تبذل واجتماعات تعقد هنا وهناك منذ فترة طويلة لتحقيق المصالحة بين حركتي فتح وحماس وإنهاء حالة الانقسام التي تفتك بالنسيج الاجتماعي، ولكن العملية تتراوح في مكانها لأسباب عديدة منها عدم وجود رغبة صادقة لدى أحد الطرفين في تقبل الطرف الآخر كشريك سياسي. وما زال معظم الفلسطينيين يؤمنون بضرورة التوحد لمواجهة الاحتلال وخططه، إلا أن الأغلبية قد تفقد آمالها وتمل من طول الانتظار وأساليب المماطلة والمراوغة، فتطالب بإسقاط الطرف المسؤول عن فشل الجهود.

نعم؛ تحقيق السلام مهم وغاية سامية، ولكن التمسك بالثوابت والحقوق، وتحقيق العدالة لينال المجرمون ما يستحقون من العقاب في هذه الدنيا قبل يوم الآخرة لا يقل عنه أهمية. وهناك أمر آخر لا يمكن تجاهله وهو أن كل ما يطلق عليه "السلام" ليس بالضرورة أن يكون سلاما، بل قد يكون رفع الراية البيضاء ومجرد استسلام.

هناك أمثلة كثيرة يمكن أن نضيفها إلى ما تقدم، أمثلة لعمليات السلام والمصالحة بين الحكومات وحركات التمرد، وأخرى بين الأحزاب السياسية، بل وحتى بين الدول، غير أن الجروح الاجتماعية العميقة التي تفتح خلال سنوات الصراع لا تندمل لمجرد توقيع اتفاقية المصالحة بين الأطراف السياسية. ولذلك يجب التفكير طويلا قبل الاسترسال في القتل والإرهاب والتوغل في دماء الأبرياء، وكذلك في تأجيج المشاعر وبث العنصرية والكراهية وتحريض الشارع وشحن الجماهير ضد طرف يمكن الجلوس معه يوما حول طاولة المفاوضات للمصالحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.