شعار قسم مدونات

في نقد التنظيمات الإسلامية

blogs - islamist
((وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه؛ بل من فعل هذا كان من جنس جنكيزخان وأمثاله؛ الذين يجعلون من وافقهم صديقًا مواليًا، ومن خالفهم عدوًّا باغيًا))
ابن تيمية

(1)

تُسَخِّر الدولة الحديثة أدواتها: بدءًا من المدرسة، وحتى أجهزة الدولة البيروقراطية، مرورًا بالإعلام، وحتى الخدمة العسكرية= لإنتاج شَعبٍ كالقوالب المتشابهة، تدور في فلكها، وتسبح بحمدها.
يبقى من الناس الموجودين داخل حدود إقليم الدولة الحديثة= ثقافات فرعية تأبى الاندماج في الأمة مصنوعة الهوية هذه، وتصر على الحفاظ على هويتها الخاصة، وتبدأ في استعمال آليات معينة لمقاومة محاولات الإدماج التي يفرضها المركز عليها.

الانغلاق التياري والصراع السياسي على رأس السلطة يساعد الجماعة المهيمنة على عزلك، وعلى إظهارك دائماً كثقافة فرعية هامشية، مغايرة لروح الأمة وهويتها.

استعمل الإسلاميون كثقافة فرعية عدة آليات لمقاومة الإدماج أهمها:
1- الانغلاق عن باقي المجتمع المدمج في الهوية العامة، مع محاولة اصطياد بعض عناصر هذا المجتمع المدمج وإدخاله داخل حظيرة الحجر الصحي الثقافي الذي أقامته.
2- الصراع السياسي لمحاولة انتزاع منصة الهيمنة من السلطات المسيطرة على رأس الدولة.

وأحد آليات الطريقتين المشار إليهما هو العمل الجماعي التنظيمي، من حيث إنه يساعد على الانغلاق وصناعة مجتمع موازي، ومن حيث إنه يساعد على صناعة قوة سياسية كافية لخوض الصراع على رأس السلطة.

ومن الطريف الذي يستحق التأمل هنا أن التنظيمات الإسلامية بصورة أساسية من بين باقي أشكال التجمعات الإسلامية= قامت باستنساخ نفس طريقة عمل الدولة الحديثة في السيطرة على أتباعها وإن بأدوات مختلفة لإنتاج قوالبها المتشابهة التي تُسبح بحمدها.

والنتيجة العامة: صراع روبوتات آلية من أجل مصالح من يمسكون بالريموت كونترول، وإن اختلط هذا ببعض الأغراض الشريفة أحيانًا.

والحقيقة أن الانغلاق التياري والصراع السياسي على رأس السلطة يساعد الجماعة المهيمنة على عزلك، وعلى إظهارك دائماً كثقافة فرعية هامشية، مغايرة لروح الأمة وهويتها.

والإدماج الواقع على المجتمع أصلب من أن يُزال سلطوياً، لعوامل كثيرة؛ منها: طول زمنه، وموافقته للهوى، مع كونه أيضاً جزءاً من نسق عام للهويات يتم تصديره لجماعتك المهيمنة من مركز آخر داعم له، ومستعد لمناصرته؛ حفاظاً على النظام العام للهويات الذي يحكم العالم اليوم.

لكن هذا الإدماج في الوقت نفسه أهش من أن يصمد مجتمعياً أو يستعصي على تغيير تبرأ به ذمتك أمام الله؛ فإن قوة الوحي الذي معك، وموافقته للفطر القابعة في قعر النفوس هناك، كاف لصناعة درجات من التغيير لا يسألك الله عما هو أكثر منها مما تطمح إليه وتحرق مواردك من أجله والحال أنك تفقد أدواته.

صناعة الدولة لهوية الأمة نسق مفتوح شديد الجدلية، وهو أرض خصبة قابلة للمقاومة والمدافعة، والمقاومة والمدافعة لابد أن تكون بالوقوف في نفس مدرجات الجماهير التي يتم تشكيل هويتها، تقف كواحد منها رافضاً لعملية تشكيل الهوية، حريصاً على نشر جمل الدين الحق الأصلية القطعية؛ لأنها بنفسها عنصر طارد للهويات المصنوعة، لا تحتاج قطعيات الدين لمكونات أيديولوجية زائدة لطرد الهويات المصنوعة.

نفس الوحي وأصوله القطعية إذا صبرت على نشرها في الناس، ذائباً فيهم بلا حواجز أيديولوجية، أو تنظيمية، أو تيارية، وبلا أهداف سياسية أو سلطوية، وبدون تفاصيل النقاوة الزائدة= هو أكبر حاجز أمام تشكيل الأمة من قبل الجماعات المهيمنة.
 

(2)

التنظيمات الإسلامية تعتمد على العمل الجماعي المبني على تراتبية هرمية وقيادة فردية أو جماعية، توجه الأتباع بالأوامر المستوجبة للطاعة، والمستندة إلى نوع من أنواع الشرعية، ليست هي شرعية الدولة، ولا شرعية التعاقد الإداري المؤسسي.

والعمل الجماعي التنظيمي/المعسكر ليس ضدًّا للفردية بل هو ضد للعمل الجماعي غير المعسكر، والعمل الجماعي غير المعسكر صور شتى تشمل المؤسسات، والأعمال الجماعية منظمة المهام بدون هيكلة تراتبية على صورة الشبكات وجماعات الأهداف.

وبالتالي فالمغالطة المشهورة بوضع التنظيمات على أنها هي العمل الجماعي فقط في مقابل العمل الفردي = محض خطأ. فالواقع أنَّ التنظيمات هي إحدى صور العمل الجماعي، وسبب توجيه النقد لها بالذات أنها أكثر صور العمل الجماعي إفرازًا للسلبيات، بسبب خطأ في التصورات يخلط العمل التنظيمي بمفاهيم الجندية والعسكرة، وبسبب أخطاء أخرى راجعة للظروف التاريخية لتكوينها.
والذي ينتقدها إنَّما ينتقد نموذجًا مخصوصًا من العمل الجماعي، ولا ينتقد جنس العمل الجماعي.
 

والساحة الإسلاميَّة لا تخلو ويجب أن تزيد فيها: الأعمال الجماعية المؤسسية، والأعمال الجماعية جزئية التنظيم بدون تراتبية؛ بل لا تكاد تخلو شعبة من شعب الإيمان المجتمعيَّة من ترتيب جماعي من نوع ما، وبالتالي فلا صحة للتعامل مع نقد التنظيمات وسلبياتها على أنه فردية؛ بل هذا نوع من التشنيع الكاذب؛ والذي غرضه تشويه الفكرة بسبب العجز عن مناقشتها.

ونحن نرى جواز كل عمل جماعي، تنظيمي وغيره، إلا ما كان فيه زيادة في الحب الإيماني لأجل الحزب، أو زيادة في البغض لأجل الحزب، أو كان اجتماعًا على الأشخاص لا على الحق، أو تقديمًا لمن لـم يقدمه الله وإنَّما قدمه الحزب، أو تأخيرًا لمن لـم يؤخره الله وإنَّما أخره الحزب، أو كان فيه ترجيح في الخلاف لأجل الحزب لا لأجل تبين الحق، أو كان فيه تأثيم شرعي على الخطأ الإداري، أو براءة ومباعدة بمجرد عدم التوافق الإداري أو الشرعي السائغ، أو كان فيه تعطيل للكفاءات والمواهب وربط التقديم والتأخير بالموالاة الإدارية التنظيمية لا بالرصيد الإيماني والكفاءة الحاصلة.

وأكثر هذه الأبواب لا تكاد تقع جلية فصيحة؛ وإنَّما يخدع بها الشيطان الإنسان عن نفسه وتحتاج لمجاهدة ومكاشفة، وبعضها هو من قبيل الحالات النفسية التي تقع من الإنسان لا يمسك بها إلَّا أنَّ تتبعها وطلب تخليص نفسه منها.
 

أرى أن أكثر ما يناسب أحوال الأمة اليوم هو العمل الجماعي من المجموعات القليلة الشبكية، المرتبطة بأهداف لا أيديولوجيات، ثم العمل المؤسسي لا التنظيمي.

(3)
السؤال الآن: هل يمكن خلو تنظيم من هذه الآفات؟
من ناحية الإمكان العقلي والشرعي = ممكن، أما من ناحية المشاهدة العادية = فلا يمكن؛ فيعود الحكم الشرعي هنا لمسألة القلة والكثرة.

فإن كان هذا قليلًا مصحوبًا بتحذير أفراد العمل منه ومجاهدتهم لعلاجه = لـم يمكننا منع العمل التنظيمي لأجل هذا وإلا لزمنا وقف الجهاد؛ لأنَّه يقع فيه الرياء والسمعة والتشهي للغنائم، وهذا باطل بل هو من جنس الذين قعدوا عن الجهاد خوف الفتنة فسقطوا فيها.

أما إن كثر هذا = فيرجع القول لباب سد الذرائع، ويسوغ حينها قول من يقول بمنع التنظيم؛ لكونه ذريعة لهذا الفساد، خاصة أنه يصل أحيانًا لفساد أعظم من فساد الميسر الذي حرم لأسباب يقع جنسها في التنظيمات.

وبحسب حصول الذريعة ووقوعها ومشاهدتها = تزداد قوة الذاهب لسد الذريعة بمنع التنظيمات أو تضعف. كما أن الباب يظل مفتوحًا لإقامة نماذج خالية من ظهور هذه المفاسد بكثرة؛ فبناء الحكم على سد الذريعة لا يصلح أن يُعد وحيًا قطعيًّا من جنس ما حرمته الشريعة سدًّا للذريعة؛ بحيث نقطع بعدم إمكان حصوله إلا مصحوبًا بالفساد؛ بل هو من موارد الاجتهاد يمكن أن يدعى إمكان إقامته خاليًا من الفساد الظاهر، والذي أراه أن خلو النماذج التنظيمية من الفساد الكافي لمنعها يحتاج لصدق وتجرد وزيادة في الوعي الثقافي لا يتوفر في عموما الثقافات المنتشرة في العالم العربي، وواقع الحال وآثار التجربة المعاصرة يدل على وصول أخطاء التنظيمات الإسلامية لدرجة الكوارث.

وأرى أن أكثر ما يناسب أحوال الأمة اليوم هو العمل الجماعي من المجموعات القليلة الشبكية، المرتبطة بأهداف لا أيديولوجيات، ثم العمل المؤسسي لا التنظيمي، والمقصود بالعمل المؤسسي في مقابل العمل التنظيمي: هو العمل الذي تخف فيه القضبة المركزية للقيادة الهرمية، وتتخذ فيه القرارات بناء على لوائح مفصلة منضبطة، مع سريان حالة رقابة متبادلة بين القيادة وفروع المؤسسة في تحقيق مدى الالتزام باللائحة الإدارية، مع وجود شورى منظمة الآليات واضحة المعالم، مع قدر من الشفافية له أيضًا المعايير الإدارية التي توضح درجته.

تبقى الإشارة لجملة من سلبيات التنظيمات الإسلامية المنتجة لأخطاء تصرفاتها وقراراتها:
أولًا: كثير من التنظيمات القائمة على عقيدة و(أيديولوجيا) طاردة للمفكرين، معظمة للجنود الذين يسمعون ويطيعون مع قدر قليل أو معدوم أو غير فعال أو شكلي من النقاش والشورى العامة.
والحقيقة أنَّ التنظيمات إن لـم تستقم إلا بالعسكرة والسمع والطاعة العمياء = فلا خير فيها.

ويتوسل بعض التنظيميين لغرضه من نشر العسكرة في التنظيم بدعوى أن أمر القائد ملزم حتى في مسائل الحلال والحرام ما دامت المسألة اجتهادية، وهذا خطأ؛ فالمسائل الاجتهادية فيها خطأ وصواب وحلال وحرام، وموافقة التنظيم أو الحزب لمجرد أنه أمر وإن كان قراره خطأ هو قيمة سياسيَّة علمانية مخالفة للشريعة، التي لا تجيز الطاعة إلا في المعروف، ولو كان قول الحزب سائغًا ما دام أنه خطأ.

فالحقيقة أنَّه لا فرق بين الخطأ السائغ وغير السائغ ولا فرق بين المسائل الاجتهادية وغير الاجتهادية من جهة وجوب عدم التلبس بما تعتقد خطأه، ومن استبان له الحق لـم يجز له تركه وإن كان يُستحب له القيام بهذا الحق بالصور والوسائل التي تقلل فساد الخلاف، والاجتماع على ما ترى أنه خطأ مفسدة لا تبيحها الشريعة؛ ولذلك تحرم الطاعة للجماعة الأم جماعة الخلافة إن كانت الطاعة في معصية، ولم تفرق بين معصية قطعية أو ظنية، وهذه المسألة هي أحد الفروق المهمة بين التحزب المذموم والتحزب المشروع.

وتبقى صورة واحدة وهي الخطأ السياسي والإداري الذي لا يدخل دائرة الحلال والحرام؛ كاختيار مرشح معين بين مرشحين متساويين في الشروط الشرعية، أو أمر العضو بخطبة الجمعة في مسجد دون غيره، وليس في المسجد المأمور به مانع شرعي = فهذا له تقديرات مختلفة؛ لكنَّه في الجملة هو القسم المرشح لأنَّ يطيع فيه العضو أوامر القيادة وإن كان يرى خطأها، ما دامت ليست من أبواب الحلال والحرام.

ثانيًا: انتشار التبرير والقدرة غير المحدودة على التأويل المستهتر لتصرفات القيادة.
والفرق بين التبرير الهوائي والترجيح العلمي: أن القلب في التبرير يجري أول شيء نحو العلل والأسباب والمسوغات، التي تجعل القول أو الفعل صحيحًا غير منكر.

أما الترجيح العلمي فهو عملية موازنة طويلة بين مسوغات التخطئة ومسوغات التصويب، وقد تأخذ وقتًا طويلًا ومجهودًا، وما يميزها هو بذل الوسع في مقارنة المسوغات دون القضاء للتخطئة أو التصويب إلا بعد التأني والنظر. ببساطة انظر ماذا يفعل قلبك عندما تسمع أو تقرأ القول أو الفعل، العجلة لمسوغات التصويب مباشرة = تبرير هوائي.

ثالثًا: اختلاط الولاء الديني بالولاء التنظيمي، واختلاط المحبة الفطرية عندهم بالمحبة الشرعية، وتقديم من لا بينة على تقديمه وإبعاد من لا بينة على إبعاده؛ لمجرد الانتماء التنظيمي.

رابعًا: الضعف العلمي والثقافي والفكري، بسبب استغراق المهام التنظيمية للجهد والوقت، وحرص بعض التنظيمات على الحفاظ على أتباعها في مستوى ثقافي معين لا يجاوزونه.

خامسًا: بناء العلاقة مع المجتمع على منطق الصياد والسنارة؛ فهو ينفتح على المجتمع بالقدر الذي يسمح له بجذب الأفراد للتنظيم، ونادرًا ما يعجز عن إقامة علاقات اجتماعية متكاملة خارج هذا الإطار.

التنظيمات بصورتها الحالية داخل التيارات الإسلاميَّة يوشك أن يَغلب شرها خيرها، ولا نراها مركزًا في حركة المقاومة، بل بالعكس هي أحد أهم عوامل ابتلاع حركة المقاومة.

سادسًا: النرجسية ورؤية الذات، والمفاضلات غير المبنية على أسس شرعية محكمة.

سابعًا: وجود حالة من التبعية، تعتمد على سياسة المتبوع على التابع، وتحويله إلى ببغاء مبرر وجندي أمن مركزي، وهذه الحالة تحتاج لأساس يستمد منه المتبوع شرعية سلطته على التابع.

والغالب على التنظيمات الإسلاميَّة هو وجود خلطة من هذه الأسس، التي تشكل حالة الطاعة العمياء، والتبرير الأيديولوجي، وعسكرة الأفكار الموجودة فيهم.

وعليه؛ فإنَّ التنظيمات العقديَّة الهرمية بصورتها الحالية لابد من التفريق بينها وبين التنظيم للعمل على شُعَب الإيمان؛ فإن التنظيمات بصورتها الحالية داخل التيارات الإسلاميَّة يوشك أن يَغلب شرها خيرها، ولا نراها مركزًا في حركة المقاومة، بل بالعكس هي أحد أهم عوامل ابتلاع حركة المقاومة، بسبب قابليتها للعبث بمفاهيم الدين من أجل مصالح سلطوية، لا يعجز التأويل المستهتر أن يجعلها في سبيل الله! فهي تشبه من هذا الوجه: ممالك الإمارات والطوائف.

وتشبه من وجه آخر: سياسات الأديان الهرمية في صناعة "الجيتو" المغلق حول نفسها، وتوطيد علاقتها بأتباعها عن طريق صناعة: "عقد الاضطهاد" وترسيخ أوهام النقاوة.

ومثل هذا لا يكون في مجتمع مسلم إلا أضاع وظيفة الأنبياء، ووضع مكانها وظائف الملوك والسلاطين من إرادة العلو في الأرض.

وعبر تاريخ الإسلام كله، وفي أعلى درجات قوته، وفي أشد درجات ضعفه = لـم يَبق فيه الدين إلا بوظائف الأنبياء، وقيام أهل الديانة بتلك الوظائف، اندماجًا في المجتمع من غير جدر فاصلة، ولا مجتمعات مغلقة داخل مجتمعات، ولا دين ضيق داخل الدين يتم فرز الناس على أسسه.

وأنجح صور العمل الجماعي وأبعدها عن الفساد وأشبهها بسيرة المجتمعات القوية وألصقها بواقع المجتمع الإسلامي زمن قوته = ما كان الاجتماع فيه على الأهداف لا على الأيديولوجيات وما كان خلوًا من التراتبية الهرمية المعسكرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.