شعار قسم مدونات

أن تكون فلسطينياً

Blogs - Palestine - Aqad

"أنا من هناك.. ولي ذكرياتٌ.. ولدت كما تولد الناس.. لي والدة
وبيتٌ كثير النوافذِ.. لي إخوةٌ.. أصدقاء.. وسجنٌ بنافذة باردة
ولي موجةٌ خطفتها النوارس.. لي مشهدي الخاص.. لي عشبةٌ زائدة
ولي قمرٌ في أقاصي الكلام، ورزقُ الطيور، وزيتونةٌ خالدة
مررتُ على الأرض قبل مرور السيوف على جسدٍ حوّلوه إلى مائدة
أنا من هناك.. أعيد السماء إلى أمها حين تبكي السماء على أمها،
وأبكي لتعرفني غيمةٌ عائدة
تعلّمتُ كل الكلام، وفكَكته كي أركب مفردةً واحدة
هي: الوطنُ.."

– محمود درويش
 

لا تكاد تفارقني رغما عني فكرة أنني أعيش في وطن مستعمر في كافة الميادين في الوقت الذي استحدثت فيه بعض الدول -والتي لعبتها المفضلة رفاهية شعوبها- منصب وزير السعادة، للتأكد من حصول مواطنيها على أعلى وأدق درجات الأمن والرفاهية. تعاني دولة أخرى من محتل يستحدث يوميا مناصب وقوانين؛ ليمسح على أثرها فتات السعادة التي يملكها الشعب الفلسطيني، فيغرس أوتاده السَّامة في أحلام الشعب وأفراحه، محطما ما تبقى لديه من أمل لأن يكون إنسانا حراً.
 

الإرادة هي الحرية، والصبر هو السعادة، والبقاء هو كينونة الحياة، والأنا والأين هي فلسطيننا العربية بهويتها، العتيقة بأديانها.

أن تكون فلسطينياً، هي نعمة لم يتذوقها الكثير، فبالرغم من مرارة التاريخ المحنط لشعب ذاق الموت واحترق على حدود أحلامه وعلى عتبات بياراته، وأعدمت فيه الحرية شنقا على فروع التين والزيتون، واختضبت من مسك دمائه مريمية العذراء، وأعلنت الحداد على أوجاعه المآذن والكنائس، وصلبت فيه شموع التطهر من محتل أتقن تعذيبه حتى استسلم آنفا أن لا يستسلم أبداً.. بالرغم من هذا كله، أن تكون فلسطينيا، هي حالة خاصة، عليك أن تعايشها بنفسك كي تغير رأيك.
 

هنا تحت غيم هذا الوطن، يتنفس قرابة الخمسة ملايين فلسطيني أوكسجين الحرية، نعم، نحن ما زلنا الدولة الوحيدة التي تخضع لحكم استعماري على وجه هذا الكوكب الصغير بحجمه والكبير بأنانيته. هنا نحن نخضع لسطوة لا تشبهها سطوة، فتارة تصادر أراضينا، وتارة يهدم منزلنا، وفجراً يعتقل هذا، وعصراً تعدم تلك، وغفوة نتمنى لو ما غفونا. ولكن في يقظة الحياة، الإرادة هي الحرية، والصبر هو السعادة، والبقاء هو كينونة الحياة، والأنا والأين هي فلسطيننا العربية بهويتها، العتيقة بأديانها، والشهية بتنورها، والمُسكرة بعنبها، والملونة بخزامى الحب فوق ربوع جبالها، والندية ببحرها وينابيعها، واللذيذة المحرمة على قلوب مهجريها ومبعديها. هنا نحن ولدنا ويولد منا الكثير، نحن نتزوج ونفرح ونكتب ونرقص، ونعشق، ونحمل باقات الورود، وتمطر سماؤنا، وتشرق الشمس كما هي تشرق لجميع شعوب وزير السعادة. هنا نحن نصنع السعادة ونزرعها، ونرويها، ونتشاركها وتكبر مثلنا، السعادة هنا لا يمنحنا إياها وزير يتنقل بعربة فارهة، وينام ليلا عنا، فننتظره أن يفيق فيعطينا سعادته الزائفة. هنا نحن نتوارث فرحنا وسعادتنا، ونعلقها نجمة في سمائنا، مكتوب عليها شعب السعداء.
 

هنا موطني، هنا العشاق يتهادون التاريخ، هنا تولد يافا طفلة، ويولد كنعان طفلاً، هنا يولد التاريخ رغما عن نفسه، فكن فلسطينيا تسعد.

أن تكون فلسطينيا، يعني أن تعيش على متن معاهدات واتفاقيات العالم، فهذا يبيعك، وذاك يشتريك، وما أنت إلا هدنة عابرة يبايعون عليها. ولكنك الفلسطيني، أنت البداية والخاتمة، وخرافة السنين، أنت أعتقت للوطن نفسك، فهم العبيد بزيفهم، وأنت اشتريت منهم الوقت كي تصنع حلمك، فأنت الفلسطيني وإن خانوا فيك أملك.. أن تكون فلسطينيا، يعني أنك أعددت فطورك أنت والياسمين، وشربت قهوتك الدافئة كقلبك، ثم قرأت لمحمود درويش، وتعلمت أن لا تعتذر لهم عما فعلت، أو عما أنت على وشك أن تفعل، وعلى هامش الوقت، وعدت نفسك أن لا تساوم، هي الأرض أرضك، وأنت الوريث الوحيد منذ الأزل.

أن تكون فلسطينيا، يعني أن تتأخر على عملك صباحاً أمام حاجزعسكري يستفز أعصابك، فتوضب حقيبتك وتعلن السفر بحثا عن كرامة إنسان ووطن، ثم تبكي وتطلب التوبة من نفسك، ها أنت ضعفت مرة أخرى، وخنت وطنك المغلوب على أمره. أو أن تذهب إلى السوق لتبتاع لنفسك طعاما، يسد شهية اليأس بداخلك، فترى طفلا تمشي به الدنيا على عكازتين، هو لم يفعل شيئا، فقط أحضر كرته من ذلك الوادي الملغوم بمقبلّات الموت على عجل، فقطفت قدميه، ينفطر قلبك، هذا يومٌ آخر يشبه في وجعه جميع أيامك، ولكنك ما زلت أنت. على عجل سيأتي المساء، تحضر، تعطر، تأنق قبيل الغروب، هنالك عرس وزفة، وبعض من الفرح أنت تستحقه، فأكرم نفسك، فأنت في خير أرض الله، في شام السعداء، وشأنها عند الله عظيم.
 

أن تكون فلسطينيا، هي تفاصيل كثيرة، لن يفهمها أحد لم يذق حلاوة المرارة على هذه الأرض، ولم يحيا بعد الموت هنا، هنا موطني، والذي في رباه وهواه كتب إبراهيم طوقان. هنا التناقض والتماثل في العواطف، والتشابه في الوجوه وفي الأحلام، هنا سرمدية البقاء والثبات. هنا نحتفل بالمسيح كما نحتفل بمحمد، نؤمن بالأنبياء كما نؤمن بالوطن. هنا الموت لا يشبه الموت حقا، هو بداية البعث. هنا أعراس الشهداء كما أعراس الياسمين، تُظِلُّ من يحملها. هنا العشاق يتهادون التاريخ، هنا تولد يافا طفلة، ويولد كنعان طفلاً، هنا يولد التاريخ رغما عن نفسه، فكن فلسطينيا تسعد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.