شعار قسم مدونات

الخطاب الإمبراطوري والتغيرات السياسية في اليابان والمنطقة (٣)

blogs - japan

مراحل إعادة بناء المؤسسة العسكرية اليابانية بعد الحرب:
كما أسلفنا فإن قوات الحلفاء قامت بإلغاء المؤسسات العسكرية اليابانية وتسريح العاملين فيها. ولكن سرعان ما نشأت الحاجة إلى تطوير قوات الأمن الداخلي، الأمر الذي دفع بالحاكم العسكري الجنرال دوغلاس مكارثر في عام 1950 إلى الموافقة على قيام الشرطة الوطنية. كما وأن اليابان قامت بتطوير بعض القدرات الدفاعية في سبيل تخفيف العبء على القوات الأمريكية والتي كانت مشغولة بالحرب في شبه الجزيرة الكورية، وذلك بعد التوقيع على اتفاقية سان فرانسيسكو وضمن التفاهم الياباني-الأمريكي حيث تم الإعلان في عام 1954 عن إنشاء "وكالة الدفاع الذاتي اليابانية" التي ترتبط بسكرتير مجلس الوزراء (Chief Cabinet Secretary ). اشتملت الوكالة على قيادات القوات البحرية والبرية والجوية.

الحاجة إلى تطوير القدرات العسكرية اليابانية:
إرسال قوات الدفاع الذاتي إلى العراق:
قامت الولايات المتحدة، الشريك الأمني والإستراتيجي لليابان، بقيادة تحالف دولي لتحرير الكويت بعد غزو صدام حسين لها عام 1990، لكن حكومة اليابان آنذاك قررت عدم المشاركة في التحالف عسكريا مكتفية بالمساعدة المالية في تغطية بعض النفقات مما دفع بأصدقائها لوصفها بأنها "عملاق اقتصادي وقزم عسكري"، وهي القضية التي سببت الحرج الكبير لقادة اليابان خصوصا مع الحليف الأكبر الولايات المتحدة التي كانت تتوقع دورا أكبر من اليابان.
 

شهدت منطقة جنوب شرق آسيا العديد من التطورات الأمنية التي رفعت من وتيرة القلق ودفعت بالقيادة اليابانية إلى الإسراع في خططها لإعادة النظر في دور القوات المسلحة.

لكن الوقت لم يمض طويلا حتى جاءت الفرصة الثانية عام 2003 عندما قامت الولايات المتحدة بقيادة تحالف دولي لغزو العراق وإسقاط حكم صدام حسين بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل. وقد سارعت العديد من الدول خصوصا الحليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا وأستراليا إلى إرسال قوات إلى العراق. لكن اليابان لم تكن قادرة على مجاراة حلفائها بأرسال قوات إلى مواطن النزاع بسبب القيود الدستورية، ولأن العراق كان ساحة حرب.

تولدت لدى رئيس الوزراء الياباني الأسبق "جونيتشيرو كوئيزومي" بأن الوقت قد حان لإعادة النظر في هذه القضية باعتبارها خطوة في طريق تطبيع أوضاع اليابان، كما وأنه لا يريد تكرار ما حصل في حرب الخليج الأولى، خصوصا وأن الحليف الأكبر لليابان يضغط بشدة في هذا الاتجاه ليس في العراق فقط وإنما هناك رغبة عامة من الولايات المتحدة في أن ترى اليابان وهي تلعب دورا أكبر في تطوير قدراتها العسكرية للمساهمة حفظ السلام العالمي خصوصا في منطقة المحيط الهادي لتخفيف العبء عنها.
 

قام كوئيزومي بالطلب إلى مجلس النواب -الذي كان يمتلك فيه أغلبية مريحة- لإصدار قانون خاص يسمح بإرسال قوات يابانية في مهمة غير حربية للمساهمة في إعادة الإعمار، وبالفعل حصلت الموافقة في جلسات لمجلس النواب شهدت عراكا بين المؤيدين والمعارضين حيث تم إرسال القوات إلى مدينة السماوة جنوب العراق، لكن الشروط التي وضعها المجلس والتنازلات التي قدمتها الحكومة دفعت بالحكومة التي كان السيد "شينزو آبي" يشغل المنصب الثاني فيها بعد رئيس الوزراء الأسبق "كوئيزومي"، وهو سكرتير عام الحكومة والمسؤول المباشر عن وكالة الدفاع الذاتي اليابانية، إلى التفكير الجدي إما بتعديل المادة التاسعة من الدستور أو تغيير التفسير الرسمي الذي يحكم تطبيق المادة في الواقع.

جاءت الخطوة الأولى في هذا السبيل بعد صعود "شينزو آبي" إلى رئاسة الحكومة للمرة الأولى حيث أصدر قانونا جديدا في عام 2007 تم بموجبه تحويل وكالة الدفاع الذاتي إلى وزارة سيادية باسم "وزارة الدفاع" وتعيين السيد (فوميو كيوما) أول وزير للدفاع في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن أمد حكومة السيد آبي لم يطل حيث اضطر إلى الإستقالة لتدخل بعدها اليابان مرحلة من عدم الاستقرار السياسي إاتهت في عام 2009 بوصول الحزب الديموقراطي المعارض إلى الحكم في فرصة لم تتكرر في أكثر من نصف قرن سوى مرة واحدة ولفترة قصيرة جدا في الثمانينات من القرن الماضي.

جاء الحزب الديمقراطي تحت شعار التقارب مع الصين ولعب دور متوازن بين الولايات المتحدة والصين رغبة منه في تخفيف الصراع في المنطقة وعدم اللجوء إلى تنمية القدرات العسكرية خوفا من عودة العسكر إلى السياسة. لكن القادة الجدد سرعان ما اكتشفوا أن الشعارات شيء والواقع شيء آخر، ولم يستطع الحزب تحقيق تلك القفزة الكبيرة لأن الصين لم تكن مستعدة لمد يد الصداقة إلى الحكومة الجديدة واحتضان الغريم اللدود. لذلك فشل الحزب الديمقراطي في مساعيه وسقط في الانتخابات التشريعية وسرعان ما عاد الحزب الليبرالي-الديمقراطي إلى سدة الحكم في عام 2012 وبقوة كبيرة تدعمها أغلبية في مجلس النواب بقيادة شينزو آبي وكانت إعادة النظر في دور القوات المسلحة من شعارات حملته الانتخابية.

التصعيد العسكري في المنطقة:
شهدت منطقة جنوب شرق آسيا العديد من التطورات الأمنية التي رفعت من وتيرة القلق ودفعت بالقيادة اليابانية إلى الإسراع في خططها لإعادة النظر في دور القوات المسلحة، ولعل من أهم تلك التطورات مايلي:
– ارتفاع حدة الصراع في شبه القارة الكورية: قامت كوريا الشمالية في السنوات الأخيرة بعدة خطوات استفزازية لجيرانها ومن ذلك قيامها بتطوير قنابل ذرية، حيث قامت بأربع تجارب نووية على الأقل منذ عام 2006 ولحد الآن. هذه المشاريع تثير القلق الشديد لدى الشعب الياباني الذي يعتبر الشعب الوحيد الذي ذاق مرارة الأسلحة النووية في هيروشيما ونكازاكي، والذي إلى على نفسه أن يعمل على عدم تكرار تلك المآسي مهما كان الثمن. كما وأن كوريا الشمالية لا تخفي عداءها التقليدي لليابان وتجاهر بذلك وتذكر بالجرائم البشعة التي ارتكبها الجيش الياباني أثناء احتلاله المنطقة.
 

بالإضافة إلى الأسلحة النووية فقد قامت كوريا الشمالية بتطوير منظومة صواريخ متعددة الأغراض تثير الرعب في المنطقة، ومن ذلك العديد من أنواع الصواريخ التي تبدأ من صواريخ "سكود" المتنقلة إلى الصواريخ متعددة المراحل مثل "نادونغ-1" الذي تبلغ حمولته أكثر من 600 كغم ويصل مداه بين 1300 إلى 1600 كم، كما وأن هناك الصاروخ "تايبودونغ-1" المكون من ثلاثة مراحل ويبلغ مداه 6000كم. كذلك تقوم كوريا الشمالية بتجارب على صواريخ عابرة للقارات حيث أعلنت في الأيام الماضية عن نجاح تجربة محرك جديد لصاروخ عابر للقارات جرت بإشراف الزعيم الكوري الجنوبي كيم جونغ إن، الذي أعلن أن الولايات المتحدة والعالم أصبحت في مرمى الصواريخ الكورية.

 توسيع الصين لمياهها الإقليمية:
قامت الصين ببناء العديد من الجزر في بحر الصين الجنوبي الغاية منها توسيع المياه الإقليمية التابعة لها حيث قامت ببناء مطار ونصب بطاريات مدافع وصواريخ في بعضها.
 

شهد الاقتصاد الصيني نموا كبيرا في العقود الثلاثة الماضية، جعل من الصين ثاني قوة اقتصادية في العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي.

كما وأن الصين واليابان تتنافسان على بعض الجزر الصغيرة وغير المأهولة التي تسمى "جزر سنكاكو" الواقعة بين أوكيناوا وتايوان في بحر شرق الصين. وتدعي الصين بأن اليابان استولت على الجزر خلال الحرب الصينية-اليابانية عام 1894 ولذلك فاليابان، من وجهة نظرها، مجبرة على إعادة الجزر إلى الصين بحسب إ=اتفاقية سان فرانسيسكو. لكن اليابان تدعي غير ذلك، حيث قامت وزارة الخارجية اليابانية في عام 2012 بإنشاء موقع إلكتروني خاص يشرح الموقف الياباني من الجزر، تبعتها بعد ذلك إدارة المحيطات الصينية بوضع موقعها الإلكتروني هي الأخرى عام 2014 الذي يشرح وجهة النظر الصينية تجاه الجزر المتنازع عليها.
 

وقد قامت القوات البحرية الصينية بزيارة بعض الجزر بين الحين والآخر لإثبات سيادتها عليها، وتقوم القوات البحرية اليابانية كذلك. وهناك خشية من أن تتطور الأمور فتصبح الجزر نقطة تماس بين الطرفين قد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه.

زيادة الإنفاق العسكري في الصين:
شهد الاقتصاد الصيني نموا كبيرا في العقود الثلاثة الماضية، جعل من الصين ثاني قوة اقتصادية في العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي. هذه الموارد المالية الكبيرة وحاجة الصين المتزايدة إلى الأسواق والموارد الأولية ورغبتها في حماية طرق التجارة التي تمر فيها البضائع المصنعة، دفعت بالصين إلى زيادة الإنفاق العسكري وبسرعة كبيرة، حيث أعلنت مؤخرا زيادة الإنفاق العسكري في الميزانية السنوية بنسبة تبلغ أكثر من 10% ليصل إلى 144 مليار دولار، مع العلم بأن بعض المصادر تؤكد أن الموازنة العسكرية الصينية الحقيقة تبلغ 2015 مليار دولار، لتصبح الصين الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث الإنفاق العسكري. تأتي هذه الزيادة لتؤكد نهج الصين في توسيع قدراتها العسكرية حيث بلغ معدل الزيادة السنوية على الإنفاق العسكري منذ عام 2010 أكثر من 10%. هذا وتقدر المصادر ميزانية اليابان العسكرية بحوالي 40 مليار دولار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.