شعار قسم مدونات

حرية التعبير.. الشعار والممارسة

blogs - speech

حرية التعبير عن الرأي والفكر، تظل حلماً جميلاً، وفكرة طوباوية، وشعاراً مثالياً، ولكن حقيقة الأشياء تقول بأنها نسبية، ولها ضوابط وكوابح كثيرة؛ صحيح أنها في المجتعمات العالم ثالثية في أسوأ حالاتها، ومحكومة تماماً برؤية النظام السياسي، والنمط الاجتماعي السائد، وهما غالباً يضيقان ذرعاً بكل من يمارسها ولو على أضيق نطاق، ولكن هذا لا يعني أنها في الدول والمجتمعات الأخرى مطلقة وبلا قيود أو حدود.
 

هيلين توماس، هذه العجوز التي تعتبر أيقونة الصحافة الأمريكية، قد أقصيت  من منصبها وعملها الذي بدأته منذ عهد كينيدي، وهي لم تمس ما يعتبر من المحرمات غربياً، أي الهولوكوست.

وإذا كان الغرب وأقصد بالغرب خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا،  يعتبر عربياً أفضل مثال على مساحة حرية الرأي والتعبير، ويتطوع العرب -وأنا منهم أولاً وأخيراً- بتدبيج القصائد المادحة المتغنية بهذه الحرية عندهم، وهو مدح يحمل ضِمناً في طياته رثاءً لحالة تلك الحرية عند العرب.

فإن الغرب مطعون وبالدليل الملموس في مدى حرية الرأي والتعبير لديه؛ نعم يمكن للمواطن الغربي، أو غيره على أرضه أن ينتقد رئيس الدولة ورئيس الوزراء والمؤسسات بكلام منطوق أو مرقوم أو برسم أو بمادة فنية، ولن يكون مصيره السجن أو القتل أو التضييق مثل ما سيحصل له في البلاد العربية عادة، ولكن هناك أمور لو اقترب منها ولو تلميحاً فسيناله الأذى.

فمثلاً هيلين توماس، إذا كنتم تتذكرون هذه العجوز التي تعتبر أيقونة الصحافة الأمريكية، قد أقصيت -مع أنها تراجعت عن تصريحاتها- من منصبها وعملها الذي بدأته منذ عهد الرئيس جون كينيدي، وهي لم تمس ما يعتبر من المحرمات غربياً، أي الهولوكوست؛ فقط قالت بأن على اليهود في فلسطين العودة إلى ديارهم في بولندا وألمانيا والولايات المتحدة، أي لم تدع إلى ما يشتبه أنه لا أخلاقي ولا إنساني، ودعوتها كانت من باب تبريد الصراع المشتعل، وما رأته حلاً، وهو قرار هي لا تملكه، مجرد وجهة نظر طرحتها في بلد الديموقراطية الأول.

وقد كان حظ روجيه غارودي الفيلسوف الفرنسي المعروف أسوأ في دولة يحلو لبعض العرب وصف عاصمتها (باريس) بأنها رمز التنوير والحرية التي لا يقف في وجهها شيء، سواء الاعتبارات الدينية أو الأخلاقية، فقد مسّ ما لا يسمح الغربيون بمسه، وهو رواية الهولوكوست.

علماً بأن فلسفة الغرب التي يروّجها منذ حقب زمنية طويلة تتلخص بأن كل شيء قابل للبحث والتشكيك، وأن المنهج العلمي والدليل العقلي هو الفيصل فقط وليس حتى للنص المقدس بله أفكار البشر -حسب هذا المنطق- اعتبار إذا خالف العلم، وتحت هذا البيت الفلسفي ترعرع الملحدون وتكاثروا وفي ظل حرية الرأي المسنودة بقوانين غير قابلة للتأويل جاهروا بآرائهم بكل وسيلة ابتكرها الإنسان.

ولكن عند غارودي صارت حرية الرأي والتعبير شعاراً فارغاً من المضمون، مع أنه يفترض أن يرد عليه بطريقة علمية تفنّد رأيه، أو على الأقل أن يقال أن من حقه التعبير عن رأيه الذي يختلف عن رأي الدولة وعموم المجتمع، ولكن الرد على ما طرحه الفيلسوف والمفكر والسياسي الضليع كان المحاكمة والإدانة.

وقد يرى المتيّمون بوضع حرية الرأي والتعبير عند الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً، بأن جارودي لم يقتل برصاص رجل مهووس أحمق، ولم يغيّب في ظلمات السجون حتى تنهشه الأمراض، ولم يتعرض للتعذيب النفسي والجسدي، ولم يفصل من وظيفته أو يضيق عليه وعلى عائلته في الرزق والمعيشة، مثلما هو حال من يكتب رأيه في بلاد شرق المتوسط، وخالف رأيه ولو جزئياً رؤية النظام السياسي القائم في بلده.
 

حرية التعبير عن الرأي بمختلف الوسائل خاضعة تماماً لاعتبارت سياسية وربما اقتصادية واجتماعية في كل مكان على وجه الأرض، وأن الشعار شيء والممارسة شيء آخر>

الكلام خادع لأن المقارنة أصلاً عند قائليه غير موجودة فأنت في دولة تفاخر بتقديس حرية الرأي، بينما أنت تعيب على الدول الشرق أوسطية العربية عدم وجود أي قيمة أو احترام لحرية الرأي، فمن حيث المبدأ لا مقارنة، فلم تحضر المقارنة في حالة جاردوي التي تمثل ثلمة كبيرة في تطبيق شعار حرية التعبير عن الرأي.

طبعاً فرنسا ومعها عدة دول أوروبية سمحت بنشر رسوم مسيئة للمسلمين الذي يشكلون نسبة أكبر من اليهود في أوروبا، ويشكلون خمس سكان الأرض، والإساءة للمسلمين جاءت بالنيل من نبيهم أي التعرض لصلب عقيدتهم، والإساءة لليهود لم تكن كذلك من قبل جارودي الذي فقط تناول أحداثاً مست اليهود في الحرب العالمية الثانية جزئياً، وانتقد جعل تلك الأحداث مبرراً لممارسات الحركة الصهيونية، وهي حركة حتى بعض اليهود يرفضونها.

ولا ننسى منح لقب فارس من الدولة البريطانية إلى الكاتب سلمان رشدي وهو من أصل هندي، إضافة إلى احتفاء به من قبل رموز غربيين منهم الرئيس بيل كلينتون، فهل هذا التكريم والاحتفاء مرده الإعجاب بالقيمة الأدبية والقدرة الإبداعية للرجل، وهي ضئيلة جداً عند غيره ممن يعيشون في الغرب والشرق، أم أن الأمر مرتبط بأمر آخر بات معروفاً؟

الخلاصة أن حرية التعبير عن الرأي بمختلف الوسائل خاضعة تماماً لاعتبارت سياسية وربما اقتصادية واجتماعية في كل مكان على وجه الأرض، وأن الشعار شيء والممارسة شيء آخر، وذلك في كل مكان، وصار معروفاً ومعلوماً محددات وحدود كل بقعة من العالم في تطبيق هذا الشعار الحالم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.