شعار قسم مدونات

الزواج في عنق زجاجة "دورات التأهيل الإلزامية"

blogs - marrige
قد ترى كثيراً من الشباب استطاع أن يؤسس مشاريعاً ناجحة، ويفتتح عملاً متمثلاً بمكتب أو شركة، في الوقت الذي لم يستطع فيه أن يؤسس أو يؤثث بيتاً، والـ"سين" والـ"ثاء" في مجتمعاتنا سيّان، في سياقٍ تجتمع فيه القوالبُ المعنوية والمادية التي يرسمها المجتمع للزواج، أو التي تم توارثها تلقائياً حتى اتخذت موقعاً ثابتاً مسلّماً به.

ومن هنا يمكننا أن (لا) نشعر بكثير من الغرابة ونحن نتابع إحصائيات الطلاق التي يرتفع مؤشرها وتحديداً في الأردن، بمقدار ألف حالة عن العام الذي يسبقها خلال الثلاث سنوات الأخيرة، وفق إحصائيات نشرتها دائرة قاضي القضاة الأردنية. "بمقدار ألف حالة"، شيء مؤسف هذا الاستقراء العددي الذي يشابه استقراء مؤشر زيادة وانخفاض الأسهم من على شاشة البورصة، والمؤسف أكثر هو ذلك التصفيق المبهر لذاك المرهم الملطّف بوصفه سيضع حدّاً لارتفاع حالات الطلاق. 

عملية التأهيل للزواج عملية تراكمية، تماماً كما يتعلم أبناؤنا القراءة والحساب. إن الزواج مسألة عقل وعاطفة نعم، ولكنه قبل ذلك عليه أن يُحرَّر من كل تلك القيود التي أُلبسها وفرّغت جوهره.

مرهم" الدورات الإلزامية للمقبلين على الزواج" ضمن المشروع الذي تبنته دائرة قاضي القضاة في الأردن بعنوان "في سبيل بناء أسرة سليمة" كبرنامج تأهيل قبل الزواج، بحيث لا يتم إبرام عقد الزواج دون هذه الدورة في آليةٍ لم تحدد بعد من حيث فئة الأعمار، والمدة الزمنية اللازمة لها، وآلية الدورة ومنهاجها، وغيرها من التساؤلات التي لم يكشف عنها للآن: هل سيرافقها رسوم مادية؟ وما قيمتها؟ هل ستكون مجموعة محاضرات تلقينية أم ورشات تدريبية؟ هل ستكون مجرد شهادة أم رخصة بامتحان ضمن نظام قياس معين؟ وإن كان، فما النظام الذي يمكنه أن يقيس منظومةً متشابكة من العلاقات المادية والمعنوية بما فيها من طبائع شخصية وأفكار وجملة حقوق وواجبات؟ فهل ستكون هذه "الدورات الإلزامية" شكلاً جديداً من أشكال الوصاية على قرار الزواج بين طرفين أم تيسيراً له؟

لستُ ممن يفترضون الأسوأ، ولكنني لستُ مع التفاؤل الزائد لأي خطوةٍ وتصييرها عصا موسى. ولقد قدمت لبضعة أعوام برنامجاً إذاعياً أسرياً، كما ونظمت مشروعاً هو الأول من نوعه إذاعياَ في تسهيل زواج مجموعة من الشباب، ورافقه دورة تثقيفية لمجموعة من المخطوبين قدّمها مجموعة من المختصين الأكفاء في مجالات العلاقات الأسرية والثقافة الجنسية والاقتصادية والاجتماعية كما القانونية، وعليه فلست بصدد إحباط كل محاولة جديدة في هذا الباب. لكني أضع بعضاً من النقاط "في سبيل بناء أسرة سليمة" راودتني عقب قراءتي لدخول مبادرة دائرة قاضي القضاة الأردنية في هذا السياق حيز التطبيق.

عقود زواج منزوعة الجوهر
وبرأيي أن المشكلة أساساً في مرحلة ما قبل الاختيار، إذا ما انطلقنا من أنّ الزواج "رزق واختيار" وليس "نصيب وعادات"، وعليه فإنه من اللازم علينا "نسف" كل زواج نُزع فيه حق الاختيار من كلا طرفيه أو أحدهما. و"نسف" كل زواج محرّك الدفع فيه "كاتالوج" أم العريس أو العروس. و"نسف" كل زواج مبناه "صفقة"، منزوع المعنى والروح. و"نسف" كل زواج سُلقَ سريعاً بين جلستين أو ثلاث أو لنقُل عشرة في صحن البيت، ووقّع فيه العقد سريعاً كي يأخذ طرفاه راحتهما بالتعارف – بملازمة الأب أو الأخ أيضاً- رغم أنهما لا يعرفان عن بعضهما أكثر مما هو مكتوب في السيرة الذاتية لأحد الموظفين في شركةٍ ما، أي أنهما بلغة العقد الشرعي زوجان وإذا لم يتفقا فسيكتب لهما "طلاق ما قبل الدخول"، وسيحسب لتلك "المسكينة" بعرف بعض البيئات في المجتمع -التي تقدس المباني والأسماء- زواجاً فطلاقاً.

علينا أن نقرَ أولاً و"في سبيل بناء أسرة سليمة أنه وكثير من عقود الزواج، والمبرمة في المحاكم الشرعية في بلادنا، في جوهر سيرها واقعاً، لا تمس روح الدين والإنسانية بشيء، بل إن العديد من الأرواح والأجساد تُغتصب يومياً بغلاف عقد شرعي كان استمراره ظلماً وبهتانا. علينا أن نتقبل بأن طلاق بعض الأزواج علامة صحة لا علّة في المجتمع، وليس كل علاقة زواج مؤبدة وطويلة تعني أن الزواج ناجحٌ.

"في سبيل بناء أسرة سليمة" لا تكفي دورات "إلزامية" يُعطى لقطبيها رخصة أشبه برخصة قيادة السيارة، فشتان ما بين السير في شوارع المدن وشوارع الحياة والأرواح، إن تلك المقاربات المادية التي نصطنعها بين منظومة الزواج وغيرها في الحياة كمنظومة العمل والشركة من شأنها أن تحرِف الزواج عن مسربه ومفهومه الصحيح، وتجرِّده من روحه وحقيقته.

ما اللازم إذن؟
إننا كأسر في دورها التربوي التثقيفي، وكدولةٍ بمنظومة التربية والتعليم فيها ومؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة، إن أحسنّا صناعةً الفرد الإنسان الذي يعي ذاته وعلاقته مع الآخرين بكافة أبعادها النفسية والفكرية والاجتماعية، فسيكون قادراً على أن يقرر متى يريد أن يتزوج؟ ولماذا؟ ومن؟ وكيف؟ فالزواج ليس فقط  تلك الصورة النمطية المحددة سلفاً مجتمعياً، أو علّه يجانبها حتى في بعض المفاصل. وبذا تكون عملية التأهيل للزواج عملية تراكمية، تماماً كما يتعلم أبناؤنا القراءة والحساب. إنّ الزواج مسألة عقل وعاطفة نعم، ولكنه قبل ذلك عليه أن يُحرَّر من كل تلك القيود التي أُلبسها وفرّغت جوهره.

دعونا نعلم شبابنا كيف يرسمون شكل زواجهم كما اتفقوا لا كما ورثوا، كيف أن الزواج نواة لبعث الروح وتساميها، لا مقبرة لوأد الحب والحلم.

سألتني إحداهنّ يوماً: إذا أحبت فتاة آخر تقدم لها، وكان يختلف معها فكرياً أو اقتصادياَ هل تكمل معه الطريق وتغامر أم لا؟ أجبتها: الزواج تكامل وتآلف روحين، يستطيع أن يحدد طرفاه ويقررا – وفق رؤيتهما المشتركة للمعاني ذاتها ومدى صدقهما مع ذاتهما والعلاقة – هل سنكمل أم سنقع؟ الأهم أن يكونا صادقين مع نفسيهما. وبعض الأشياء حتماً لا تُعرف دون تجربة، خاصة في مجال العلاقات، فتجارب الآخرين ليست صالحة للاستنساخ المطلق، وكل إنسان بكينونته تجربة مستقلة عن الآخر، تستلزم منه في النهاية أن يسدد ويقارب.

لذا دعونا نعلّم شبابنا كيف يعرفون ما يريدون، كيف يختارون بإرادتهم وقرارهم بعيداً عن قوالبَ تثقل ظهورهم وتحنيها قبل هرمهم، كيف يرسمون شكلَ زواجهم وأسرتهم وأولادهم وموطنهم وحلهم وترحالهم كما اتفقوا لا كما ورثوا، كيف يحيون بحب وتفاهم ومسوؤلية مع ذواتهم وأسرتهم والمجتمع، كيف أنّ الزواج نواةُ لبعث الروح وتساميها لا مقبرة لوأد الحب والحلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.