شعار قسم مدونات

القدس – مكة.. القطار الذي لم يصل

Palestinians carry Palestinian flags, banners and placards during a protest rally to mark the 49th anniversary of what they call 'Naksa Day', in the West Bank city of Hebron, 05 June 2016. Naksa is the anniversary of the outbreak of the so-called 'Six Day War' in 1967 which resulted in the Israeli occupation of East Jerusalem, the West Bank, the Gaza Strip, the Syrian Golan hights and all of the Sinai peninsula.

كان المرض خفيا فينا؛ مدفونا في أعماق كل عِرق وقبيلة وتكتل بشري وفرد.. غير أنه لم يمتحن وقتها بعد لاستعجال ظهوره، ولم يعالج كذلك.

كان كل مكوّنٍ وتكتل في المنطقة يرى في نفسه تميزا وقوة ذاتية تؤهله -لو استقل وحارب لمصالحه الذاتية معزولة عن محيطه المتقاطع معه تاريخا وهوية ولسانا- تحقيق العيش الرغيد والرفاه وإشباع نزعات السلطة والملك في ذاته وأبنائه.

حرب الجسد "الإسرائيلي" المحتل، من حرب الفساد والتخلف في كل ركن من الوطن، وأن حرب التخلف في كل ركن هو من حرب الاحتلال.

غير أنه ولظرف ما؛ مرتبط ربما بتفضيل الاستقرار المؤقت، أو الخشية من عار الانحلال عن الهوية الأصل، أو عدم التيقن من حصول "الفرصة المناسبة" وظروف دعمها.. لم يرفع السيف أحد..

غير أن ميزان القوى تغير -مع قدوم المد الاستعماري-، و حسبة المصالح الضيقة تقدمت في سوق النخاسة، ومعايير الأخلاق السامية الرفيعة سقطت، وتنادى كل مكوّن في بنائنا الكبير للانفصال، وصرخ كل ركن في منزلنا الممتد: " أنا بذاتي منزل "، وغنّى يقصد حدودا لم يرسمها هو ولا قومه "موطني، وبلادي، وأرضي".

وبقدر ما كان ربّ البيت وقتها فاسدا وربما عنصريا، بقدر ما كنا وكان ربُّ كل ركن وحجَر، وبقدر ما كان حريصا على خدمة ذاته ومصالحه أولا بقدر ما كنا كذلك نسخة متطابقة.

غير أنه تقدم علينا باثنتين: وعيه بحقيقة وحدة مصير المنطقة سقوطا للجميع أو ارتفاعا للجميع، وسعيه للحفاظ على وحدتها وإن مارس في سبيل ذلك وسائل قاسية وظالمة.
 

كان ثمة مشروع -رمزي عندي وربما لوجستي عند صاحبه- لتوحيد المنطقة ولو شكلا؛ قطار ممتد من إسطنبول للحجاز مرورا بأغلب حواضر الشرق الأوسط وعلى رأسها القدس، يركبه مواطن المنطقة وابن ترابها لا يسأله موظفو كل ركن صغير في الوطن عن جوازه وكونه " من أهل البلد والطائفة" أم لا..

غير أن المكونات رأت فيه "تهديدا" لذاتها ووجودها فهاجمته، وهو في طريقه حاجّا دون إحرام للحجاز، ومعتمرا دون تلبية لمكة، رغم كونه يحمي وحدتها في حقيقة الأمر.
 

وبينما كان كل مكون مشغول بذاته ومصالحه، متحالف مع المستعمر ضد أخيه في المنزل الواحد.. بدأ يتشكل جسم غريب بقبعة سوداء، ولحية مجعدة، وعلم لم تعرفه أي مكونات المنطقة منذ الأزل في وسط وقلب الوطن الممتد.

لم ينتبه له أحد، أو انتبه دون اهتمام كبير طالما أنه لم يصل للركن الخاص به، وكان كل مكون مشغول بقتل فكرة القطار الكبير لقطار أصغر منه، عربي فقط وكردي مثله وتركي وفارسي.

ثم قطار أصغر وأكثر تطورا وملاءمة للسني والشيعي، والمدني والبدوي، وابن النسب الرفيع والوضيع، وشرقي البلاد وغربيها.. حتى انتهى القطار قطعا متشظية من حديد تالف و وعنصري وطائفي صدِء.
 

ولسنا ندري أيهما أتى أولا؛ ضعف المنطقة وتنامي الشعور العنصري الفئوي فيها، أم وجود ذلك الجسد المحتل فيها..

وأيهما ينتهي أولا قبل الآخر عنصريتنا أم وجوده، وأيهما يغذي الآخر فعلا ويتجذر الآخر منه..
 

غير أننا ندري يقينا، أن وجودهما متلازم، وأن بقائهما متلازم، وأنهما أخوان توأمان مرتبطان بمصير مشترك: أن يبقيا معا أو يفنيا معا..!

وأن حرب هذا الجسد المحتل، من حرب الفساد والتخلف في كل ركن من الوطن، وأن حرب التخلف في كل ركن هو من حرب الاحتلال انتهاءً في علاقة مستحيلة الفك والفصل واقعا.
 

تسميه بعض الأطراف اليوم"الصديق الإسرائيلي"! من يحاربه يحارب كل التخلف الذي أصابنا في كل شبر.. من يصادقه يصادق المذلة للأبد..

ليس في المقال دعوة لارتباط سطحي بموروث وشكل تاريخي سابق، فالدنيا تتغير والدول تفنى وتقوم وتتوسع وتتقلص، وليس التدوين هنا نداءً لتناسي الظلم الحاصل في تلك الحقبة والتغافل عن حرب الفساد والعنصرية ولا يدعو لمنع الناس من اختيار من ترتضي ممثلا لها؛ غير أنه دعوة للوعي الحقيقي بمسبب الكوارث المتتالية الحاصلة في بلادنا ذات الغالبية العربية والمسلمة.
 

الشعور الوطني المجتزأ اللامتناهي في تشظيه وانقسامه وتفتته؛ هو أصل المرض الذي ظهرت أعراضه في شلالات الدم المسفوك في بلادنا دونما رد موحد وعمل مشترك وإحساس واحد؛ أقلها بالألم.
 

وهذا وقد كان القطار -في رمزيته هنا لا في وجوده بالضرورة- ولا يزال مشروعا قابل التحقق لو استنفرت أمتنا جهدها وتنصلت عن أمراض تمييزها العنصري ليصبح تميزا في العمل والخدمة والرسالة، ولو عرفت استحالة صداقة محتل شبر واحد من الوطن الواحد وحاربته واستعدت للتضحية في سبيل ذلك..
 

هذا -للتذكير الأخير- وقد كانت فلسطين تسمى سوريا الجنوبية، وكان الأردنُ الضفةَ الشرقية للأخرى غرب النهر..وكان طريق بغداد – طنجة صعبا وطويلا.. غير أنه سالك..

وكانت سكة قطار إسطنبول – الحجاز في طريقها للنشأة.. حتى ظهر في الخريطة جسد لقيطٌ من سعار غربي.. وانتفض مع وجوده النفس القُطري الضيق.. وارتفع في البلاد التي أظلها علم واحد بهلال كبير: عشرات الأعلام بنجوم وسيوف وصقور منتوفة الريش تسميه بعض الأطراف اليوم"الصديق الإسرائيلي"! من يحاربه يحارب كل التخلف الذي أصابنا في كل شبر.. من يصادقه يصادق المذلة للأبد..
 

كل العداءات تقلبها الظروف و المصالح.. إلا عداؤه..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.