شعار قسم مدونات

استهداف مكة وحروب الأماكن المقدسة

blogs-استهداف مكة

تصنف مكة المكرمة على أنها واحد من "100 مكان جيوبوليتيك" في العالم وفقا لكتاب بالفرنسية يحمل هذا العنوان. وقد احتلت مكة موقعاً ثقافياً واقتصادياً هاما على مر العصور في تاريخ الجزيرة العربية وقبل ظهور الإسلام كونها قلب الطرق التجارية بين الشمال والجنوب وتوصل سلع الشرق والغرب ومع ظهور الإسلام ازدادت مكانة مكة.
 

وهناك أماكن مقدسة إسلامية ومزارات ومساجد وجامعات موزعة في بلدان عربية وإسلامية كثيرة منها المسجد الأقصى الذي يحوز على مكانة وجدانية كبيرة في نفوس المسلمين، وكان وما يزال حلم الصلاة في باحته يدغدغ خيال المسلمين في بقاع الأرض. وبعض هذه الأماكن الدينية موجودة في إيران وفي العراق وقد أخذت أهميتها تتعاظم وتقام فيها حشود كبيرة موسمية توازي ما يحدث في موسم الحج في مكة المكرمة إلا أنه نشاط محصور على مذاهب معينة، بينما مكة هي مقصد حجاج كل الطوائف والمذاهب الإسلامية وفيها يكتمل أحد أركان الإسلام.

تتحرش إيران في كل موسم حج بالسعودية في محاولة منها لإظهار فشل المملكة، بالتالي شرعنة نزع سيادة المملكة على الحرمين وحصول إيران على نصيب من هذه الأماكن المقدسة

في عالم العولمة وصعود الأيدولوجيات الدينية كأداة صراع فإن للأماكن المقدسة موقعا متميزاً في هذا الصراع. ويعلم خبراء اقتصاديات ما بعد النفط أن السياحة والسياحة الدينية هي واحدة من أهم مقومات هذا الاقتصاد، ولعل المملكة أدركت مؤخرا هذه النقطة وتسعى إلى تفعيل السياحة الدينية وزيادة قدرة البلاد على استيعاب معتمرين أكثر ليتضاعف الرقم الحالي من 8 مليون إلى قرابة 30 مليونا في العام وفقا لرؤية السعودية 2030.
 

ومنذ قرابة ثلاثة عقود وإيران تبذل كل غال رخيص من أجل إثبات مكانتها الإقليمية بعد أن فقدت موقع شرطي المنطقة وتورطت في علاقات عداء وحروب مع جيرانها خصوصا العرب. ومن أجل ذلك، فقد اختطت لنفسها مسارا عسكريا وتسلحت ببرامج تسليح عديدة ودعمت أذرعا إقليميا لها في بلدان عربية يمكنها من البلدان التي ترومها لنفوذها.
 

إلا أنها أُرهقت في منتصف الطريق وأنهَكت شعبها الذي بات على مواجهة صارمة مع التحديات الاقتصادية ومتطلبات العيش، مما دفع إيران إلى الرضوخ والقبول بصفقة النووي المبرمة العام الماضي. لكن هذا التنفس الصناعي نفخ في أحلامها التوسعية روحا جديدا وأعطى لمشاريعها الإقليمية دفعة جديدة، وها هي في هذا الإطار تكمل مسعاها في البحث عن القوة من خلال حروب أماكن مقدسة عبر أدوات إقليمية لا تعي الحرب التي تنخرط فيها.
 

تتحرش إيران منذ فترة في كل موسم حج بالمملكة العربية السعودية وتتعمد الإساءة إلى إدارة المملكة لمواسم الحج في محاولة منها لإظهار فشل المملكة، بالتالي شرعنة نزع سيادة المملكة على الحرمين وحصول إيران على نصيب من هذه الأماكن المقدسة في انتهاك واضح لمفهوم السيادة الوطنية.
 

العمل العسكري الذي يستهدف مكة هو عمل يعمق الصراعات الإقليمية ويدفع إلى حروب دينية لا تدخر إنسانا، وتشطر المجتمع الإسلامي في عداء يزيد من المعاناة ويطيل أمد الاضطرابات

وقد تم في موسم الحج المنصرم ترويج ومناقشة أن تكون إدارة الحج إدارة موزعة على العالم الإسلامي ولا تختص بها المملكة العربية السعودية، والغرض من هذا هو وضع اليد على مورد مالي ينظر إليه من هذه الزاوية أكثر من النظر إلى قداسته الدينية. وكذلك على اعتبار أن الأماكن المقدسة هي مكان لخلق القوة وتوزيعها وتنظيمها، وتعطي شرعية أخلاقية للقائم على شؤون الحرمين في العالم الإسلامي، وأداة دبلوماسية لا يمكن تجاهلها.
 

وفي هذا السياق يأتي استهداف الحوثيين لمنطقة مكة -أكان هدف الصاروخ الباليتسي يقصد الحرم المكي أو مطار جدة وهو مطار المعتمرين بالأساس- كأداة إيرانية من أجل خلق بلبلة كبيرة، وضرب المركز الاقتصادي السعودي والنيل من العمق السعودي ومن مكانة مكة في النفوس. ويجري تهوين صدى هذه العملية المدانة من خلال استجلاب أحداث تاريخية وقع فيها هدم وتدمير لمكة أو مأثورات دينية تعلي من حرمة الإنسان على الحجر ولي دلالاتها.
 

إلا أن العمل العسكري الذي يستهدف منطقة مكة هو عمل يعمق الصراعات الإقليمية ويدفع بالمنطقة إلى حروب دينية لا تدخر إنسانا، وتشطر المجتمع الإسلامي في عدائيين واضحين سني وشيعي يزيد من المعاناة ويطيل أمد الاضطرابات. كما أنه يسئ لليمنيين كثيرا في أذهان المسلمين في أرجاء العالم ليغدو اليمني معتدياً على أقدس أماكن المسلمينبينما في حقيقة الأمر تكفلت فئة قليلة بعمل كهذا في سياق حرب بالوكالة تقوم به نيابة عن إيران.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.