شعار قسم مدونات

في غرفة الولادة

blogs - Bapy
غرفة الولادة.. ذلك المكان الذي تملؤُه صَرَخَات الوَجَع، وصَرَخَات الحَيَاة أيضا..
فبين صرخات الأُمّ والألم يعْتصرُها، تُولد صرخات الأمل من ذاكَ الإنسان الصَّغير، لتُعْلن عن بداية رحلته..

وبينما تختلط تلك الصَّرخات داخلا وتمتزج، تختلط أصواتُ الفرح والبهجة خارجا، احتفالا بصغير أو صغيرة.

المرةُ الأولى التي أدخل فيها تلك الغرفة كانت عندما كنَّا طلابا في الجامعة، كان الذُّهول والاستغْراب يُخيِّم عليّ، والصُّراخ يملأ أُذُنيّ، والجميع بداخلها يتحرّك كالنّحل دون توقف، طبيبٌ يعطي الأوامر وآخر ينفذ، وكلُّنا قد أصابنا حينها الجمود.

رُويدا رُويدا، بدأت بتأمُّل المشهد والتفكير فيه..
وأوَّل ما خطر في بالي هو "أمّي الحنون".

لماذا يُريد البعض أن يُكمِّم أفْوَاهنا، ويحرمنا حقَّنا في الصُّراخ؟! لماذا يريد البعض امتلاك حَناجرنا فلا تصْدَح إلا بما شاؤوا ووقتما اشتهوا

لم أكن لأتَصَوَّر أنّ ألم الولادة ومعاناتها بهذا القدر، لم أكن لأتصوَّر كم كُنت ضيفا ثقيلا في ذلك الرَّحم يوم أن حَلَلْت فيه لآخذَ حيِّزا منه، أشاركها غذاءها، وأحرمُها نومها، وأوجع بطنها، وأعَكِّر مزاجها، ورَغْم كلّ ذلك ما زالت السّعادة والفرحة تملؤها عند إحساسها بي داخلَها.

من نفْسِ هذه الغرفة الصَّاخبة في مكانٍ آخر، خرجتُ للدُّنيا صارخا معلنا قدومي، وقُطِعَ الحبل الذي ربَطَني بها خلال تسعة أشهر كاملة بفعل فاعل، بل وعن سبق إصرار وترصُّد، لأنطلقَ بعدها في سفر الحياة محمولا برعايتها  ودعواتها.

البعض منَّا لم يتمالك نفسه، وحمَلَ هاتفه ليحدِّث "صاحبة الفضل"، باكياً بين يديها، متحسِّرا على قلَّة شعوره تجاهها، نادما على تقصيره نحوها، عاد صغيرا كيوم ولادته بين يديها، عاد باحثا عن ثديها الّذي منحهُ قُوَّة الحياة.

في لحظات التأمُّل تلك، يجذب انتباهك أمّ تملأ الدنيا صراخا وعويلا، بل وندماً على اليوم الذي فكَّرت فيه في الزَّواج والإنجاب..

وما هي إلاَّ ثوانٍ فقط بعد أن تضَعَ مولُودَها ويحملُه الأطباء، حتى تطْلُب منهم إحضارهُ إليها سريعا، وبكلِّ لهفة تنظرُ إليه تلك النَّظرة الحانية، نظرة المُّحب المعاتب، وتنْفَرجْ بعدها أساريرُها وينْشَرح قلبُها، وترْتَسم الابتسامة العريضة على وجهها، وتكتسي ثوبَ السُّرور والحُبُور، وكأنَّ ما كانَ لمْ يكُن!

هذا الصغير المحْبُوب لا يدري حجْم الألم الذي سبَّبه، ولا يدري كذلك حجم الفرح الذي نسَجَه، ولا يَعي ما تُدَّبره لهُ الأيَّام والدُّهور.. هو فقط يُمارس بعضاً من حقِّه في البُكاء والصُّراخ كلَّما وجدَ نفسهُ بعيدا عن صدر أمِّه الدافئ، وبعد أن يَرْتَوي عطفا وحنانا يستكين في مكانه نائما، في هدوء لا يشبهُ صَخَب هذه الغُرفة.

بعضُ الشَّباب صار يحْمَدُ اللَّه أنَّهُ لم يُولدْ أنثى، وبعضُ الفتيات بدأن في التَّفكير في جديّة بعدم الزواج أو الإنجاب، إنها صدمة الموقف الأولى، لكن هَيْهَات!
 
هي فطرة اللّه التي فطَرَ النَّاس عليها، ورُوح الأمّ التي بثَّهَا في قلب كلّ أنثى، وحبّ الأبناء والذريّة المغْروسة في كلّ إنسان، وشغفُ الحياة والتَّكاثر.

هي أكثر من مُجرَّد غُرفة ولادة، هي مختصر لحياة بدأت منذُ خلق آدم، وانتقلت من رحِم إلى آخر

واليوم أقِف في نفس المكان، هذه المرَّة كطبيب، لكنْ بمنظُور مختلف..
خرجنا للدَّنيا صارخين، رافعين أصواتنا عاليا في فضاء الحياة، فلماذا يُريد البعض أن يُكمِّم أفْوَاهنا، ويحرمنا حقَّنا في الصُّراخ؟! لماذا يريد البعض امتلاك حَناجرنا فلا تصْدَح إلا بما شاؤوا ووقتما اشتهت نفوسهم؟!

اليوم أقِف في نفس المكان، لكن بمنظور مختلف..
ذلك الحبل الذي ربطني بمكان الميلاد الأول قد انقطع، وذَبُل باقيه وتفَتَّتْ، لكنّ حبل اللَّه ما زال موجودا، فهو الحبل الذي لم ولن يقْطَعَه عنك أحد، فقط مُدَّ يديك إليه وتمسَّك به.. (واعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جّمِيعاً).

اليوم أقِف في نفس المكان، لكن بمنظور مختلف..
متسائلا عن السَّبب الذي يجعلُ البعض يسعى جاهدا أن يرْبطَنا بحبالهِ هُو وقُيُوده الخاصَّة، بعد أن أطْلقَ اللَّه حرِّيَّتنَا في كوْنه الشَّاسع؟!

اليوم أقِف في نفس المكان، لكن بمنظور مختلف..
كُلُّنا قد خرجْنا لهذه الدُّنيا عراة وكان السَّاتر الأوَّل حينها قِطْعَة قِمَاش، ألا تُذَكِّرُك قطعة القِمَاش هذه بالسَّاتر الأخير؟! بقطعة قِمَاشٍ أخرى ستًدْفَن معها؟!

اليوم أقِف في نفس المكان، لكن بمنظور مختلف..
متحسراً أنَّ بعضَنا ما زال عارياً رَغْم أنَّه قد اكتسى أرقى الثِّياب وأغلاها، فالعُري الحقيقيّ هو انعدامُ المبدأ والأخلاق.

في تأمُّلي..
هي أكثر من مُجرَّد غُرفة ولادة، هي مختصر لحياة بدأت منذُ خلق آدم، وانتقلت من رحِم إلى آخر، وما زالت مستمرَّة حتى اليوم في انتظار "صَرْخة النِّهاية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.