شعار قسم مدونات

الاختراق الاستخباري للإسلاميين في الجزائر

blogs-الجزائر

بدأنا في تكوين "مكتبة الثائر المصري"، بكتاب "الشيخ أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة" الذي يروي تجربة ناجحة لتأسيس حركة مقاومة في ظروف مستحيلة، وعرضنا أهم خلاصاته في جزئين: الأول، والثاني، ثم بدأنا بكتاب "مختصر شهادتي على التجربة الجهادية في الجزائر" لمؤرخ الجهاديين الأبرز أبي مصعب السوري وفيه دروس تجربة فاشلة لحركة مقاومة انقلاب عسكري في الجزائر، فعرضنا الجزء الأول منه، ونستكمل الآن بقية خلاصاته.
 

وكنا قد ذكرنا في المقال السابق أن الاختراق الاستخباري للفصائل المقاتلة بدأ بتسهيل هروب 700 منهم من سجن جزائري ليختلط الجواسيس بهم، ثم عبر سلسلة اغتيالات للقادة يُصَعَّد الجواسيس أو المُخْتَرَقين إلى موقع القيادة، فما لبث أن اغتيل القائد الأول "القاري سعيد" عند مطلع (1993م) تمكنت الفصائل المقاتلة من تحقيق الوحدة بنسبة 95 بالمائة، وتولى القيادة أبو عبد الله أحمد، لكن ما لبث هذا أن قُتِل في ظروف غامضة أيضا، وتولى القيادة بعده أبو عبد الرحمن أمين.

تشرذمت الفصائل الجهادية وتمزقت، وانفض الناس عن المشروع الجهادي وزهدوا فيه، ثم أطلقت فيما بعد برنامجا للاستسلام "الوئام الوطني" بدعوى العفو عمن يلقون سلاحهم، واختلط الحابل بالنابل

16- انحرف الخط الجهادي انحرافا كبيرا مع تولي هذا البلاء المبين أبو عبد الرحمن أمين، الذي ما لبث أن جمع ما يُدَرَّس من الكتب للمجاهدين -ومنها كتب سيد قطب وكتبي ومحاضراتي- فأحرقها جميعا، لأنها "فكر" و"الفكر" مخالف للسلفية الصحيحة وتصل عقوبته -عنده- إلى القتل سياسة! وكان هذا الرجل قديما بائع دجاج! وأفكاره تقترب من السلفية الجامية التي تعادي كل الصحوة الإسلامية، وتوليه القيادة هو لغز من الألغاز!

وقد كثرت البيانات الصادرة عنهم والتي توسع دائرة العداء والمواجهة لتجعلها ضد المدنيين المرتبطين بأدنى علاقة بجهاز الدولة، فصارت تتوعد وزارة الإعلام من الوزير إلى بائع الجرائد، ووزارة التعليم حتى الطلاب، ووزارة النفط حتى عمال محطات البنزين! وحصلت جرأة غير مسبوقة على استحلال قتل النساء والأطفال من أسر العاملين في أجهزة الدولة، وارتفاع خطاب التكفير العام، ثم تجرأت هذه القيادة المجرمة فاغتالت الشيخ محمد السعيد والمجاهد عبد الوهاب العمارة وغيرهما بدعوى تحضيرهم للانقلاب عليه، وبدعوى الحفاظ على الهوية السلفية للجماعة، ثم أصدروا كتاب "هداية رب العالمين" كمنهج فكري، وهو حافل بالجهل والتطرف والتكفير واستحلال الدماء، وبهذا اكتمل اليقين في حجم الانحراف الذي صارت عليه تلك القيادة.

17- ثم وجه أبو عبد الرحمن هذا مقاتليه إلى المجازر الجماعية في المدنيين بالقرى بزعم ارتدادهم بالتحاقهم بالميليشيات الحكومية، فاستباح دماءهم وسبي نسائهم. وهنا عملت أجهزة الاستخبارات الجزائرية التي تكشف فيما بعد أنها الساعية إلى صناعة هذه الأجواء والانحرافات بدسِّها عناصرها لاختراق القيادة الجهادية -التي ربما كان أبو عبد الرحمن واحدا منهم- فنفذت سلسلة مروعة من المجازر ضد المدنيين، وصلت إلى قتل المصلين على أبواب المساجد في رمضان بذريعة أنهم ارتدوا بمشاركتهم في الانتخابات، وقد أثبتت الأرقام والإحصائيات -كما عرضتها حلقة بقناة الجزيرة- أن المجازر كانت في حقيقتها مذابح عقابية ضد المناطق التي دعمت الإسلاميين في الانتخابات.
 

18- توقعت ما سيجري في الجزائر بناء على التجربة التي عشتها من قبل في سوريا، مع خصوصية جزائرية، فالجزائريون لهم بصمة في الشدة، فالجهاديون شرسون في الأداء، والديمقراطيون متعصبون للديمقراطية، والسلفيون متشددون للسلفية، والتكفيريون قساة مجرمون، والسلطة العسكرية جمعت كل الشر بقسوة وفظاعة فاقت بها الشياطين، ومن ورارئها كانت الأنظمة العربية -بأموالها وإعلامها وأجهزة أمنها واستخباراتها- تعطي دعما كاملا ومطلقا للسلطة العسكرية، ومن ورائهم النظام العالمي، لا سيما الاستخبارات الفرنسية التي اتضحت أصابعها العاملة في الجزائر.
 

انقسمت الجبهة الإسلامية: معتقلون في السجون، ولاجئون في الخارج يمارسون نداء الشرعية من وسائل الإعلام، وخائنون انحازوا للسلطة، ومقاتلون حملوا السلاح وصعدوا إلى الجبال

19- وهكذا أصر الديمقراطي على ديمقراطيته رغم الانقلاب حتى أفلتت الفرصة التاريخية بالاعتصام الهائل الذي احتشد في العاصمة، والذي كان يحتاج إلى مبادرة على الطريقة الخمينية، كان يجب قيادة الحشود إلى مراكز الدولة للسيطرة عليها، وكل الخسائر المتوقعة هي أقل بكثير جدا مما دفعته الجزائر.

وكان على قيادة الإنقاذ أن تتوارى لخوض مواجهة أخرى لكن إصرارهم على الديمقراطية وصل إلى أن رفض عباسي مدني الهرب من ضباط الاعتقال لما معه من "شرعية" فاعتُقِل بلا مقاومة، بل وذهب علي بلحاج إلى مبنى الإذاعة ليناظر "العسكر" في خطأ الانقلاب!! فاعتقلوه، وبغياب القيادة الأساسية انقسمت الجبهة الإسلامية إلى أربعة أقسام: معتقلون في السجون، ولاجئون في الخارج يمارسون نداء الشرعية والديمقراطية من وسائل الإعلام، وخائنون تركوا الجبهة وانحازوا للسلطة، ومقاتلون حملوا السلاح وصعدوا إلى الجبال.

20- وبهذا تم للسلطة الجزائرية ما أرادت، إذ تشرذمت الفصائل الجهادية وتمزقت، وانفض الناس عن المشروع الجهادي وزهدوا فيه، ثم أطلقت فيما بعد برنامجا للاستسلام "الوئام الوطني" بدعوى العفو عمن يلقون سلاحهم، واختلط الحابل بالنابل في كل ساحة الصحوة الإسلامية، وصارت التجربة الجزائرية دليلا لكل من يرفض خيار المقاومة والجهاد، واستطاعت أجهزة الإعلام والمخابرات -الجزائرية والعربية والعالمية- تصدير صورة مروعة لفكرة الجهاد والمقاومة وربطها بالإجرام والتكفير والمجازر والدماء!

21- أما علاقتي الشخصية بالتجربة الجزائرية، فمنذ وصلت إلى لندن وعملت مع الخلية الإعلامية الداعمة للقضية الجزائرية تلقيت صدمة كبيرة لفرط ما هم فيه من الفوضى والعبثية وانعدام الحس الأمني، فضلا عن أن أغلبهم من حديثي الالتزام الذين لا يعرفون عواقب ما يفعلون ولا يقدرون له أهميته، ثم ما لبث أن حلَّ عليهم أبو قتادة الفلسطيني، فزاد الهرج والفوضى، ثم في النهاية كُشفت الخلية الداعمة للداخل لما تمدد عملهم إلى الساحة الإعلامية والدعوية برغم كثرة ما حذرتهم، وخسرت القضية كوادر ممتازة بهذا الانكشاف.
 

لم يكن لأبي قتادة ماض في "العمل" الجهادي لكن سلفيته وحماسته وتعطش الجهاديين لأي طالب علم يدعم منهجهم ويسد حاجتهم بلَّغه هذه المكانة

22- أما أبو قتادة الفلسطيني فكان من الأفغان العرب الذين غادروا بعد انتهاء حرب أفغانستان بفعل تطور الأوضاع، فوصل إلى لندن، وسرعان ما حصل على اللجوء السياسي بطريقة أثارت دهشة وتساؤلات، وكان أول أمره من جماعة التبليغ ثم انتقل إلى السلفية العلمية ثم في أفغانستان إلى السلفية الجهادية، فلما صار في لندن اتخذ قضية الجهاد في الجزائر قضية محورية، فلم يلبث أن صار مرجعية علمية وفكرية لهؤلاء الشباب الأغرار.
 

ثم صار أبو قتادة ومقر إقامته وخطابته نقطة نشاط لكل شيء: الصلاة والخطابة وتوزيع المنشورات وجمع التبرعات والتقاء الجهاديين واجتماع المتحمسين، فصار بهذا نقطة رصد ممتازة للإسلاميين والجهاديين بالنسبة للمخابرات البريطانية. لم يكن لأبي قتادة ماض في "العمل" الجهادي لكن سلفيته وحماسته وتعطش الجهاديين لأي طالب علم يدعم منهجهم ويسد حاجتهم بلَّغه هذه المكانة لا سيما والمجموعة الجزائرية كانوا -مثله- من متعصبة السلفية.
 

23- تعرفت على أبي قتادة عن قرب، كريم مضياف ذكي واسع الاطلاع قوي الذاكرة لديه ملكة الاستنباط الشرعي طموح عالي الهمة، وكان من أتباع الدعوة والتبليغ قبل أن يصير سلفيا، فهو يحب ويجيد جمع الناس حوله وإقامة الولائم، ولذلك فهو لا يصلح للعمل السري الأمني ويسهل اختراقه، ثم إن تعصبه للسلفية جعله معاديا للمذهبية ولسائر مدارس الصحوة الإسلامية، مع شراسة وعدوانية في المناظرة واشتداد على المخالف الذين هم عنده "مبتدعة وأهل ضلال وأهواء"، وجرأة في الفتوى وضيق صدر بالخلاف.
 

وعند أبي قتادة نتوقف -لانتهاء المساحة المخصصة- ونبدأ في المقال القادم بقصته المروعة ودوره الخطير في تجربة الجزائر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.