في فيلم "Inception" ذائع الصّيت تُطرَح فكرة مثيرة للغاية: ماذا لو زُرِعت فكرة داخل ذهنك، واعتقدتَ بها كما لو كانت من بنات أفكارك تماما؟

ليس الأمر بهذه البساطة بطبيعة الحال، فنحن لا نعلم على وجه التحديد كيف تتشكّل أكثر أفكارنا خصوصيّة، وكيف ننتمي إلى أفكارنا إلى درجةِ أن نُعرّفَ أنفسَنا من خلالِها. لا نملك جوابا لهذا السؤال، والجواب معقّد بالضرورة. جيناتُنا الموروثة؟ سلوكيّات آبائنا التي تتدخّل في ترجمة ما نقلوه من جينات إلينا؟ "الفطرة"؟ طفولتُنا الأولى التي لا نكادُ نذكرُ منها شيئا؟ طفولتُنا الواعية؟ توجيهاتُ آبائنا؟ محيطُنا الاجتماعيّ؟ الدّين؟ الأعراف والعادات والتّقاليد؟ النماذج والقدوات؟ تجارب الحياة؟ التعليم والإعلام؟ …

 

لعلّه ذلك كلُّه وكثيرٌ غيرُه، لكن يظلّ لافتا انتماؤنا الشديد لأفكار بعينِها، أو لعملٍ بعينِه، أو لشيء يمنحُنا فائضا من المعنى ويُساهمُ بشكلٍ أساسيّ في تشكيل هويتِنا وتعريفِنا لأنفسِنا. علاقتُنا المتميّزة بهذا "الشّيء" وارتباطُنا الاستثنائيّ به يُمكنُ أن يوصَف بطرق مختلفة. بعضُنا سيصفُه بأنّه "انتماء"، مثل أن يقولَ المرء إنّه "ينتمي" لدين، أو عقيدة، أو هويّة، أو قوميّة، أو نسبٍ ما. بعضُنا سيصفُه بأنّه "التزام"، مثل علاقة الإنسان بمهنة، أو بدور محوريّ يقوم به، أو بواجب ارتبط به إلى درجة ساهمت في تشكيلِه. غير أنّ ما يلفتُ النّظر هو تزايد وصفِنا لعلاقتِنا بهذه الأشياء بأنّها "شغف".

 

لا يكاد يمرّ يوم دون أن تسمع في جلسة أصدقاء، أو تسمع في التلفاز، أو تشاهد على يوتيوب، أو تقرأ على شبكة تواصل، شخصا يتحدّث عن "شغفه". هذا يتحدّث عن شغفه بالموسيقى، وذاك يتحدّث عن شغفه بالسينما، وآخر يكتب عن شغفه بالتّصوير، ورابع يكتب عن شغفه بالقراءة، وغيرهم يتحدّث عن شغفه بالرسم، وغير ذلك مما لا يتّسع المقام لحصره.

 

أزعم أنّنا لو قمنا بفحص مقطعيّ لسائر الخطابات العربيّة قبل خمسين سنة مثلا، وذلك من جلسات الجارات وأحاديث أطفال المدارس إلى نقاشات المثقّفين وخطاب وسائل الإعلام، وقارنّا ذلك كلّه بيومنا الرّاهن، لأدهشنا الانتشار المذهل لـ "الشّغف" اليوم، فمن أين أتى كلّ هؤلاء الشّغوفون؟ ومتى وُلِدَ كلُّ هذا "الشغف"؟

 

"الشغف" القادم من الغرب:

لا شكّ أنّ انتشار وسائل الإعلام والتّواصل، والانتشار المذهل للإنجليزيّة في تداولنا اليوم قد نقل إلينا كثيرا من "الشّغف"، فلا تكاد تُشاهد مقابلة مع موسيقيّ أو مغنّ أو ممثّل أو حتى عالم طبيعيّ في الغرب إلا وتسمعُه يتحدّث عن الـ "Passion" الذي يتملّكُه تجاه هوايتِه أو نشاطِه. هذه كلمة دائمة الحضور ومتكرّرة الاستدعاء.

 

يعلم الجميع أنّ الممثّلين يتقاضون أجورا بالملايين، والمغنّين يتمتّعون بثراء فاحش وشهرة تجوب الآفاق، وأنه ما من عالِم يُمكنُ أن يُجريَ تجربة أو يقوم ببحث من دون تمويل باهظ، لكن لا أحد يريدُ أن يسمعَ ذلك، ولا يليق طرحُ هذه القضيّة في اللقاءات الصحفيّة، ما يريدُ الجميع سماعَه هو "الشغف". تخيّل لو أن مغنّيا قال إنه يغنّي ليعيلَ أسرتَه، أو أن ممثّلا قال إنّه قبل بأداء هذا الدّور لأنّه يريد الأجر الضخم لشراء قصر. لا أحد سيقبل ذلك ولا أحد يريد سماعَه، بل يريدُ الجميع أن يروا الشغف، ولا شيء إلا الشغف.

 

وحينما تنتقل الكلمات بين الثقافات، فهي تحملُ معها ظلالَها الثقافيّة وتتحوّر وتستوطنُ وتتمدّد، وليس غريبا بالتّالي أن يتحوّل كثير منّا إلى باحثين عن شغف، وإلى معرّفين لعلاقتِهم بما هو مهمّ في حياتِهم من خلال "الشّغف".

 

"الشغف" كظاهرة فردانيّة:

غالبا ما يرتبطُ الشغف بحالة من الفردانيّة المفرطة، بشيء يبدو وكأنّه يولَد من داخل المرء كالإلهام أو تفجّر الوحي الداخليّ، ولذا فهو يرتبطُ في الغالب بنشاطٍ لم يأتِ من خلال السّياق الاجتماعيّ، فمن المستبعَد أن تسمعَ شخصا يتحدّث عن شغفه بالحِلاقة التي ورثَها عن والده، أو عن شغفها بطبّ الأسنان الذي أخذته عن والدتِها، أو عن شغفه بالزراعة التي عملَ فيها كلُّ أعمامه وأخواله. الشّغف في الغالب حالة من التمرّد الاجتماعي بقدر ما هو حالة من النّشوة النفسيّة، وحين يعثر المرء على "شغفه"، فهو يحبّ أن يشعرَ بأنّ اكتشفَ شيئا شديدَ الخصوصيّة وعميق الارتباطِ به من دون إيحاء مسبَق من أحد، خصوصا محيطه الاجتماعيّ القريب.

 

لكن هذا الشَّغوف لا يتنبّه غالبا للكمّ الهائل من الصور والأخيلة والأفكار التي تنساب إليه من وسائل الإعلام وشبكات التّواصل، ففي حين يبدو ما يتطلّبُه السياق الاجتماعي والاقتصاديّ للشخص أمرا مفروضا من قبل سلطة أو محبّذا من الغير على الأقل، يبدو ما يأتي من خارج هذا السّياق وكأنه رغبةٌ تولّدت من الداخل بلا أي سلطات أو متطلّبات خارجية.

 

بل يصلُ الأمر إلى درجة محيّرة حين تسمع عن مطالَبات للآباء والمعلّمين والمربّين بألا يتدخّلوا في توجيه رغبات أبنائهم، وأن يتركوهم ليكتشفوا شغفَهم. لا أتحدّث بطبيعة الحال عن شاب ذي ثمانية عشر عاما يريدُ أن يختار تخصّصا جامعيّا، بل أتحدّث عن أطفال دون العاشرة بل دون الخامسة. يسمعُ المرء باستمرار أمّا تصفُ ابنَها ذا السّنوات الستّ بأنه "لا يحبّ الرياضيّات" وتتحدّثُ بضجَر عن المعلّم الذي يحثّه باستمرار على بذل مزيد من الجهد فيها، ويرى المرء شبابا كبارا لم يقوموا بشيء استثنائيّ في حياتِهم -وهذا ليس عيبا أبدا- يفتخرون بأنّهم لم يحبّوا القراءة أبدا، ويستذكرون باعتزاز تفلّتَهم من أداء الوظائف المدرسيّة ليلعبوا -وكأنّ تهرّبَ الطفلَ من وظائف المدرسة إلى اللعب أمر استثنائيّ!- باعتبار ذلك مظاهرَ مبكّرة لتتبّع الشغف.

 

وكثيرٌ من هؤلاء لم ينجزوا في المجالات التي قادهم إليها الشّغف إنجازات استثنائيّة. من الرّشد في التربية أن يتعلّم الطفل مهارات أساسيّة لا غنى لأيّ إنسان عنها، وهذا ما تقدّمُه الموضوعات الأساسيّة التي يتعلّمُها الأطفال في سائر مدارس العالم، وكذلك تعريضُه لِطَيف من الأنشطة الفنّية والبدنيّة والّذّهنيّة لتنمو شخصيّتُه بتوازن، وخلال امتلاكِه لهذه القدرات وتنميتِه لتلك الملكات، ستظهرُ بالتأكيد ميولٌ ينبغي تشجيعُها ودعمُها، لكنّ ترك طفل ما زال يتعرّف إلى الحياة لملاحقة شغفه وصفةٌ جاهزة للفشل.

 

الشغف كمقابل للانتماء والواجب:

يُستبعَد أن تسمعَ عن الشّغف في سياق مشروع دينيّ أو وطنيّ أو تحرّري، خصوصا المشروعات ذاتِ الصّبغة الجماعيّة، فلا يُتوقَّع أن تسمعَ عن شغف غزّاويّ بحفر الأنفاق، أو مصريّ بالمشاهمة في محو الأمّيّة في الصعيد، أو سعوديّ بضمان حقوق الإنسان، أو مغربيّ برفع الوعي السياسيّ لسكّان الريف. هذه الأنشطة تنطوي على انتماء والتزام وواجب، وبذا فهي ليست صالحة لتكون موضوعات للشّغف.

 

بل على العكس من ذلك، تُختارُ الأنشطة التي يتم إبرازُها باعتبارها مواضعَ للشغف بحيث تبدو في تقابلٍ مع الانتماء والالتزام والواجب في أشكالِها الجماعيّة، كشخصٍ مولَع بالرّقص في حلب المحاصرة، أو فريق للتمثيل في غزّة، أو موسيقيّ في حيّ عشوائيّ في القاهرة، وما شابه.

 

الشغف كحالة لا تقبلُ أن تُفسَّر:

يُقدَّم الشّغف باعتباره حالة غير قابلة للتفسير، فمن أنت لتسأل شغوفا عن شغفِه؟ الشغف نوع من الصّوت الداخليّ العميق الذي يُجابُ بلا كثير مساءلة وبلا حاجة إلى التفسير للآخرين. يكفي أن تُطلِق المفردة لوصف شيء تقومُ به، ويتكفّل ذلك بإسكات سائر الأسئلة المحتمَلة عن المعنى والمغزى والجدوى والنّفع الفرديّ أو الجماعيّ.

 

بطبيعة الحال، لسنا مُطالبين بتفسير وتبرير خياراتِنا كلِّها للآخرين، وهناك أنشطة بشريّة عريقة لا تُساهِم بالضرورة في تغيير سياسيّ أو حراك اجتماعي ولا تُضيف إلى الدّخل القوميّ، ولكلّ منّا أسبابُه العميقة لما يقومُ به، ولا يستطيع أحدٌ المصادرة على ذلك، لكنّ على الإنسان الرّاشد أن يسعى دائما إلى امتلاك وعي اجتماعي واقتصاديّ وتاريخيّ ودينيّ بنفسه وموقعِه من مجتمعِه وأهله وأمّته ونظامِه السياسيّ ولحظة التاريخ الرّاهنة. إذا ما وُجِد هذا الوعي، فيمكن لكلّ نشاطٍ بشريّ أن يصبح قوة تغيير ورافعة إصلاح وفعلا نافعا وعملا صالحا ضمن إطار أوسع. ينطبقُ ذلك على الفلسفة والسياسة، والشّعر والطبّ، والموسيقى والهندسة، والسينما والعمل الخيريّ.

 

لكن من دون هذا الوعي، تتحوّل حتى الأنشطة التغييريّة، فضلا عن الأنشطة المرتبطة بالشغف الشخصيّ، إلى حالاتِ فرديّة مفرطة، وهروب يائس، وأفق ضيّق، وعزلة نفسيّة واجتماعيّة، وارتكاس إلى أبسط الدوافع.

 

أخيرا، لماذا يزداد المكتئبون بالتزامن مع انتشار الشّغف؟

لا يُضاهى عصرُنا هذا في التأكيدِ المستمرّ على تحقيق السّعادة وتحصيل المتعة والاستماع لصوت الذات وإجابة دواعي النفس ومطاردة الشّغف. تبدو السّعادة لإنسان هذا العصر هاجسا مقلقا وهمّا يوميّا، أكثر من كونها مسارَ حياة. هناك ضغطُ يوميّ كثيف متواصل لتحقيق السّعادة، عوضا عن اعتبارِها حصيلة سعي متواصل، ويكمنُ جزءٌ أساسيّ منها في ان تكون خيّرا وتنفع غيرك، وتنتمي إلى أطرٌ متّسعة ومتنوّعة تُضيفُ إليها وتُضيفُ إليك.

 

وبسبب هذا الضّغط اليوميّ الكثيف، والعجز المتزايد عن امتلاك مفهوم طويل الأمد للسّعادة، تنتشرُ حالات قصوى من المشاعر التي يعزّزُها عصر "الشّغف"، وتنتشرُ عباراتٌ شديدة الإطلاق والقطع تعكسُ قلقا دفينا من زوال السّعادة اللحظيّة.

 

ترى باستمرار من ينشر أغنية جديدة على صفحته على فيسبوك ويصفُها بـ "أفضل أغنية على الإطلاق"، وكذلك عن "أعظم فيلم أنتجته هوليوود حتّى الآن" بعد خروج كاتب العبارة بدقائق من قاعة السينما، وعن "ألذّ أكلة يمكن أن يطبخها بشر" وعن "أفضل رواية عربيّة"، وغيرها. بل ينتقلُ الأمر للأسف إلى الموضوعات الجادّة، فتجد من يصفُ مقالا بأنّه "أوفى ما كُتِب عن فوز ترامب" أو "أفضل دراسة عن الإسلاميّين"، أو "كلّ ما تحتاج أن تعرفَه عن الانقلابات في تركيّا"، وغيرها. حالة من الرّغبة المحمومة بالامتلاك والاستحواذ تعكسُ خوفا عميقا من انفلات الزمن وضعف السيطرة وصعوبة الإحاطة.

 

لذلك كلّه، يتزايدُ في زمننا الشغوفون والمكتئبون، أو الشغوفون المكتئبون، وهذا يستدعي توقّفا مطوّلا إزاء ما نمنحُه المعنى وما يمنحُنا المعنى، وبحثا صبورا عن وعي أوفى بموقعنا من الأسرة والمجتمع والسلطة والأمة والتاريخ يحمينا من ضيق الرؤية والانغماس في خيبات الذات، ودأبا يتغلّب على الرغبات الآنيّة ولا تطالُه تقلّبات المزاج.