شعار قسم مدونات

أمريكا الترمبية والدبلوماسية العربية

blogs - Donald Trump
يخال لي، أن كل من له ذاكرة حية أو رؤية حادة في قراءة المستقبل، سيلجأ خلال هذه الحقبة الزمنية من التاريخ إلى الوقوف على نقطة الحياد، حتى لا يصطدم بالكتل الصماء داخل العقول التي لا صدى فيها، ولا سراج مضيء يهدي الخطى، خاصة بعد أن اختلطت كل النظريات والتعريفات الإنسانية في الكون، وأصبح مفهوم السلام والتعايش، والتشوف الزاهي للمستقبل من مكونات الماضي التي أفسدها الاستثمار الاقتصادي الجشع، والذي أوجد منظومة الانحلال الأخلاقي، والتبجح المعلن بفرض عقوبة الحصار بدون السلاح.

وطالما تلك العقول يغلب عليها فكر الهوى، والنزوة العابرة، فهي لا تخفي أبدا ضيقها من حكمة الحكيم وصبره على صروف الطبيعة وقوانينها، ولا تعيها سيرورة الشعارات الفضفاضة التي ملأت بها الأرض من قبل، حتى وإن تباينت أفعالها مع شعاراتها فلن تجرؤ يوما على نزع القناع، لأنها تعلم أنه يخفي وراءه وجها، هو أقبح من وجه الشيطان.

رغم أن الدول العربية ليست في قائمه محور الشر الأمريكية، وهناك من هي حليف وصديق لها، إلا أن الإدارة الأمريكية مارست مع العرب حروبا غير تقليدية استخدمت فيها الإعلام 

في فترة ما، وأثناء ما كانت الحرب الباردة تدور رحاها في الغرب سجالا، كان للعرب في الشرق ليل طويل شديد البرودة يمتد فيه الحلم والخيال بامتداد أشعارهم، وأغنياتهم الطويلة، فيما كانت صالونات السياسة تشهد حوارا ديمقراطيا لا مثيل له ساعد في بزوغ جيل جديد من الحكام يشتغل مع مستشاريه السياسيين في فك طلاسم اللعبة السياسية التي كانت تبثها رسائل قادة الدول الكبرى آنذاك.
 

واجتهد ساسة العرب كاجتهاد طلبة المدارس الثانوية في ليالي الامتحانات مع كل رسالة تأتيهم من تلك الدول، ويعدونها ورقة امتحان يجب التدقيق فيها، والتعامل معها بحذر، وبحكمة حكماء بدو الصحراء.

في الوقت نفسه، كلما اقترب العرب من فك رموز لعبة سياسة جديدة، كان صناع العالم الجدد قد انتقلوا إلى مرحلة أخرى أكثر تقدما وصعوبة، حتى فطن العرب أنهم في مدارات سياسة خادعة لا تعترف بأصول اللعبة السياسية الصحيحة، وأيقنوا أنها مجرد رسائل ماسونية تأتي من الغرب، تهدد وحدة وثقافة المجتمع العربي فتنبهوا لمخاطرها بعد فوات الأوان كعادتهم، وأصدرت الجامعة العربية عام 1979 تحذيرها الشهير باعتبار الماسونية حركة صهيونية تسعى إلى إفساد القيم وأخلاق الأمم.

وفي الآونة الأخيرة، وبعد أن تهاوى الوهم، وسقط قناع النفاق والخداع من على وجوه الليبراليين من الديمقراطيين والجمهوريين الجدد، الذين ينسب إليهم ما لحق بالمجتمع الأمريكي من فوضى أخلاقية وتدهور في الاقتصاد المحلي والعالمي، فهم من كانوا أيضا قد أشعلوا فتيل الفتن، والاحتراب الطائفي داخل المجتمع العربي.

حتى لم يعد في مقدور الدبلوماسية العربية التي أرهقت طوال الخمسين سنة الماضية من حجم الأفخاخ والمصائد التي نصبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والتي تسببت في هدر المال والثروات العربية، وهضم الحقوق والحريات للإنسان العربي بسبب اتباع سياسة المصالح، وتقديم المنافع للدبلوماسية الأمريكية بدون مقابل، لم يعد لها -الآن- هذه الدبلوماسية منفذ للنجاة سوى استخدام لغة الاستجداء، والوسيلة لإحياء الذاكرة الأمريكية بالتزاماتها التاريخية تجاه العرب.

ورغم أن الدول العربية ليست في قائمه محور الشر الأمريكية، ولا تعد عدوة، بل هناك من هي الحليف والصديق لها، إلا أنه -الإدارة الأمريكية- مارست مع العرب حروبا غير تقليدية استخدم فيها الإعلام عامل ضغط نفسي، وتشويه للإسلام كدين، والشخصية العربية كوجه للإرهاب، بالإضافة إلى التدخل المستمر في الشئون الداخلية، وفرض النهج العلماني على المجتمع، ودعم الأقليات، وأصحاب الفكر الشاذ.

هل ستتحمل الدبلوماسية العربية قيادة السفينة إلى بر الأمان دون أن تفقد المزيد من الكرامة، أم أنها ستختلق الأعذار الواهية في مسلسل التنازلات لإرادة اليمين المتطرف الأمريكي

ومع تجربة تغير الأدوار، وقواعد اللعبة صعد اليمين المتطرف الأمريكي –حاليا- للواجهة مستذكرا إخفاقات وفشل غريميه، ومتوعدا بإصلاح ما أفسداه في الشأن الداخلي، ومشددا القبضة على كل ما هو خارجي، ولا ينتمي للمجتمع الأمريكي، فيما رأته أوروبا الديمقراطية مؤشرا لعودة التطرف، والعنصرية للعالم، ويهدد النسيج الأوروبي الموحد من خلال دعم اليمين المتطرف داخل الاتحاد، وتمكينه من الحكم، وهو القلق الذي دفع المجموعة الأوروبية لعقد مؤتمر طارئ لوزراء خارجيتها لمناقشة تداعيات الرئاسة الترامبية لسيدة العالم.

لكن، قد يصبح المستقبل أكثر إشراقا في عيون الغالبية من الشعب الأمريكي، التي اسبتشرت بفوز الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب، ودبلوماسيته الجديدة التي يتوقع أن تكون خشنة، خلاف الشعور عند الشعوب العربية والإسلامية التي ترى أنها المستهدفة من هذا التغير الذي طرأ على السياسة الأمريكية، كون عقيدتها وثقافتها تصطدم بالفكر الماسوني، وإن الصراع مع الغرب يتجاوز الحضارات، إلى مزيد من الإذلال، واستنفاد الثروات الطبيعية لأرض الشرق.

وهذا ما يتضح، من ظهور بعض أسماء الوزراء الذين تم تعيينهم أخيرا في حكومة ترمب القادمة التي سوف تباشر أعمالها مع مطلع العام القادم أمثال مايك بومبيو، الذي تولي منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، كما عين الرئيس السابق لمديرية الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع، الفريق مايكل فلين، مستشارا للأمن القومي، فيما قبل السيناتور الجمهوري جيف سيشنس، تولي منصب النائب الأمريكي العام، وهناك احتمال كبير تعيين ميت رومني في منصب وزير الخارجية، وهو المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية العام 2012.

اختيار ترمب تلك الشخصيات لشغل المناصب المذكورة يدل على عزم الإدارة الأمريكية الجديدة انتهاج السياسة الصارمة، والشفافية في الحوار، والتفاوض بما يخدم تطلعات المجتمع السياسي الأمريكي الجديد، الذي يكره المراوغة أو إجادة لعبة السياسة الناعمة مع الدول المانعة، وسوف تكون ساحة الشرق الأوسط مسرحا ساخنا للمناورات السياسية خلال الأعوام القادمة، والتي ستكون بمثابة الاختبار لحقيقة الأسطورة الترمبية، فهل ستتحمل الدبلوماسية العربية المسؤولية، وقيادة السفينة إلى بر الأمان دون أن تفقد المزيد من الكرامة، أم أنها سوف تختلق الأعذار الواهية وتستمر في مسلسل التنازلات، والرضوخ لإرادة اليمين المتطرف الأمريكي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.