شعار قسم مدونات

مغادرة من وظيفة الموت!

blogs - wasfi
كان لنا بيت من طين، تعمر سقفه عصافير كثيرة، وتغطيه -مثل العمائم- غيوم بيضاء، وكان لدينا راديو وقور يسند ظهره إلى النافذة المغلقة مثل جدّ حكيم، نسمع منه صوت الرصاص المسجّل في أستوديوهات البث، ولقاءات القمم العربية المعلّبة في عواصم الطوق، وصوت عبد الباسط عبد الصمد عند الحداد العربي العام، لكن ما أذكره جيداً أنه ومن بين مكثفات الراديو العسلي ثمّة حنجرة خشنة لمذيع محلّي تزدحم في قاعاها أسماء كثيرة، وينفرد في قمتها اسم "وصفي"..
 

لا أدري متى كان بدء الوعي لدي، فأنا المولود بعد هزيمتين ورحيل؛ نكبة ونكسة واستشهاد وصفي التل، لا يهمني ذكر باقي التفاصيل، ما دمت قد تلقّيت كل هذه الفاجعات بالحبر السرّي والحبل السرّي وأنا في رحم أمي الحزينة.. لكن كل ما أذكره أن في بيتنا القديم كان هناك أكياس قمح كثيرة ومذراة وصورة وصفي، وكان في بيتنا جرار زيت وآية الكرسي وصورة لوصفي أيضا..

وكان أبي يتحدّث لأمي عن الموسم الوفير، والمطر الغزير وعن صورة وصفي أيضاَ.. وكان في صدر البيت سراج وهّاج يضخم أجسادنا ليلاً وكان ظل البرواز أضخم من شجرة التوت.. كان اسمه موشّحاً بنكهة الدخان العربي عندما يذكره رجال الحي في ليالي الشتاء الطويلة، وهم يتحدّثون عن استشهاد شيخ الفلاّحين وأول الحرّاثين واجتثاث "الفتيلة"..

لو تأخذ مغادرة من الموت يا سيدي وصفي التل، لاكتشفت بعد خمسة وأربعين عاماً من فراق الوطن.. أنهم لم يغتالوك أبداً.. بل اغتالونا نحن وتركونا عراة من غير كفن!.

خمسة وأربعون عاماً على الاستشهاد، خمسة وأربعون عاماً والجرح يسيل والإصبع على الزناد، خمسة وأربعون عاماً لا أنت متّ فينا ولا نحن حيينا من دونك، يا وصفي لو تأخذ مغادرة من سفر الموت قليلاً وتزورنا لساعات.. تعال وانظر إلى العروبة، عراقك نخيلٌ من لحى تتقاسمه مصالح الجلابيب وفتوى العمائم، وشامك الوكيل الحصري لنحت التوابيت وفتح المآتم، أما عمّانك آه من عمّانك.. فالوطن غارق بفاسديه والفقر عائم..

لو تأخذ مغادرة من وظيفة الموت قليلاً، لنرمي رؤوسنا على كتفك كأب عائد بعد اغتراب، ننفض عن رموشك رماد البعد، وتنفض عن شجاعتنا ذاك التراب، قل للموت أنا لي وطن هناك ينتظرني، أفرك سنابله بيدي فيشبعني، أعصر الغيم في بحره الشحيح فيحملني، قل للموت أشتاق حوران وقت الغروب.. أشتاق دوالي السلط الشقراء كجديلة.. وأشتاق قلاع الجنوب.. خذ مغادرة من رحلة الموت لنحيا بعينيك قليلاً يا هبوب..

لو تأخذ مغادرة من وظيفة الموت قليلاً وتزورنا.. لرأيت أن قمحنا صار من البحر يأتينا، ومناجلنا معلقة في المتاحف، لا لم نزرع البحر يا شهيد.. فقط، كل ما فعلناه أن رهنّا الرغيف بالمواقف، واستسقينا الله أن يروي أرض "كاليفورنيا" وما حولها فقد كفانا الله شرّ الغرابيل والمقاطف.. ما حاجتنا بالفلاحة كلها يا سيدي، ما دام الشعير أوكرانياً والحلال "رومانياً" والعشاء نطلبه على الهاتف.. لو تأخذ مغادرة من الموت قليلاً.. وتسترق السمع إلى أخبارنا.. المديونية بازدياد، البطالة بازدياد، الفقر بازدياد، الفساد بازدياد، الجريمة بازدياد، ومع ذلك نسمي الخيبة إنجازاً ونزوّر الفشل بأوراق اعتماد..

الفساد في وطني يا عقالنا.. قسم طوارىء؛ فاسد مناوب والباقون يجلسون في عيادات الاختصاص.. يرسلوننا إليهم ليكتبوا للوطن وصفة علاجٍ، أيعقل أن تذهب الضحية إلى الجاني -بحجة الاستشفاء- ولا يعاود القصاص؟

لو تأخذ يا كبيرنا مغادرة من الغياب.. لوجدت الكاذب متحدّثاً باسم الوطنية، والمنافق سيدا للشفافية، واللص الآمر باسم الصرف والأمين على خزائن المالية.. لو تأخذ مغادرة من الموت يا سيدي، لاكتشفت بعد خمسة وأربعين عاماً من فراق الوطن.. أنهم لم يغتالوك أبداً.. بل اغتالونا نحن وتركونا عراة من غير كفن!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.