شعار قسم مدونات

أمّهات غاضبات

blogs mom

قالت لي وهي تكاد تبكي "البارحة في عيادة الطبيب أحرجني بطريقة كبيرة… رمى بنفسه على الأرض، راح يقاومني ويصرخ في قاعة الانتظار وأنا أحاول إقناعه بالدخول إلى الطبيب حيث نادت الممرضة علي، وقبلها كان يضايق بعض الأطفال الموجودين في الغرفة، الكل رمقني بنظرات قاسية، حتى الممرضة لم تحاول مد يد المساعدة".

 

وقبل أن أعلق على كلامها أضافت "لست أدري لماذا يبدو أطفال الأمريكيين هادئين ومطيعين، لماذا يكون أطفالنا عكس ذلك تماماً غالباً، لقد لاحظت أكثر من مرة في لقاءات نسائية كيف يتصرف أطفال العرب بلا اهتمام ويقومون بإحراج أمهاتهم بالعناد وبالعبث والتخريب وغيره؟"…

 

كان سؤالها كبيراً وعميقاً، بحجم واتساع الأزمات في عالمنا العربي اليوم والأمس، بحجم الظلم الذي يعيشه الإنسان العربي منذ عشرات السنين، منذ أن بدأت تتكون الشخصية العربية على الذل والصمت والخنوع، وقد حاصرتني كل تلك الخواطر وأنا أفكر في كلامها الذي تعيشه أمهات عربيات كثر في وقتنا اليوم.

 

فطبيعة الأمريكيين والغرب بالعموم وأسلوب تعاملهم مع أطفالهم مختلفة؛ وتختلف طبيعة وشكل حياتهم وحالتهم الاجتماعية والاقتصادية، لكن ذلك لا يعني أنهم مثالاً للتربية… والدليل ذلك الكم الهائل من المشاكل التربوية وانتشار الجرائم الاجتماعية التي يحاول المجتمع مع المختصين إيجاد حلول لها.

 

بعضنا تستطيع كتم غضبها من طفلها بينما تتصرف بشكل طبيعي لكنها في البيت تصبح وحشاً مفترساً على طفلها

وفي عالمنا العربي أزمات تتكشف في وجوه الناس، حتى ذلك المرتاح نوعا ما في عمله وبيته تنتابه هموم لا تشبه أبداً هموم الإنسان الذي يعيش في العالم الغربي، ذلك لأن كل ظروف الحياة في الغرب تختلف… شكلُ العلاقات الاجتماعية بين الناس يختلف فلا وجود لموضوع "الإحراج" أو العيب هنا، البنية الجسدية وأسلوب الطعام والشراب ومستواه ومدى توفره يختلف، المدارس والتعليم وأساليب التدريس والنظام التعليمي بالعموم كله مختلف، فلا مجال هنا للمقارنة بأي شكل من الأشكال.

 

نحن أمهات غاضبات

نعم نحن نغتمّ ونغضب إذا ما فعل طفلنا شيئاً غير صحيح، ننحرج في الأماكن العامة حينما يتصرفون تصرفاً يعتبر بعرفنا معيباً مع أنه فعل طفولي طبيعي، نتهم أنفسنا بقصورنا في التربية ونقيم الدنيا عليه إذا ما عدنا الى البيت، لكننا ننسى أن وراء كل فعل سبب ودوافع كالخوف والمرض او التعب أو أي شيء آخر لم يستطع الطفل أن يوصله من خلال الكلام وخاصة أولئك الصغار عمراً، وننسى في تلك اللحظات أن ذلك انعكاس لطبيعتنا بالتعامل معهم في البيت.

 

لست متخصصة بالتربية، إنما أنا أمّ تمر بكل الحالات العصبية والمرضية وتشعر بكل الهموم السابقة الذكر، وفي حالة صديقتي التي تحدثت عن ابنها أدركت أن طفلها كان ربما مرتبكاً وخائفاً من جو العيادة ويدرك بذكائه أن فحصاً قاسياً ينتظره أو إبرة مخيفة ستنغمس في جسده الصغير.

 

وهذا الأمر الذي اكتشفته أول مرة عندما بدأت طفلتي الأولى تربط شكل الأماكن والناس ببعضها البعض فكانت تظن أن مكان غيار الحفاظة بالحمامات العامة هو نفسه سرير العيادة التي تلقت فيها مطاعيمها المختلفة في سنتها الأولى وسببت لها الألم فتبكي بكاء شديداً لا ينتهي إلا بالخروج من المكان، فبدأت فيما بعد أتحدث معها وأجهزها لكل موعد طبيب وأخبرها ما الذي سيحصل بأسلوب لطيف، فخفف ذلك كثيراً من خوفها عندما كبرت، وبدأت أقيس على ذلك في أمور أخرى.

 

لا أنكر أن الغضب يتفاوت من أم إلى أخرى، بعضنا تستطيع كتم غضبها من طفلها بينما تتصرف بشكل طبيعي لكنها في البيت تصبح وحشاً مفترساً على طفلها، والبعض الأخريات لا تتوانى أبداً عن التوبيخ والقسوة وأحياناً ضرب طفلها أمام الآخرين كوسيلة لتأديبه وفي غالب الأحيان يصبح الطفل إما عديم الثقة بالنفس أو غير مبالٍ وشديد العناد وكثير الإيذاء، ولهذا طبعاً علاقة وثيقة بطبيعة علاقة الأب والأم أيضا في البيت وخارجه.

 

بصيص أمل!

لكن التعميم دائماً غير صحيح فقد استطاعت كثير من الأمهات من الأجيال الجديدة أن تربط بين العقلية التي تربى عليها الإنسان العربي منذ الأزل والوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يتحكم في حياتهم وحياة أبنائهم وبين النفسية التي تسود البيت وتطغى عليه، وقد تنبهن الى وجود علاقة رئيسية بين طبيعة تصرفاتها وزوجها مع أطفالهم وبين طريقة نشأتهم، فأصبحن يحاولن من تحسين تلك الظروف على الأقل تحسين انعكاساتها على الأبناء.

 

وقد انتشرت مؤخراً ظاهرة صحية تفاعل معها الكثيرون عبر مواقع التواصل وهي انتشار النصائح التربوية في كيفية التعامل مع الأطفال بالعموم، وصار كثير من الأزواج يتابعون الدراسات والنصائح والتعليمات التي انتشرت لتفادي او إيجاد حلٍّ لبعض هذا الغضب أو الجزء الأكبر منه في التربية.

 

ورغم أن المعلومة التربوية التي تقدمها مواقع التواصل ويقدمها أخصائيون تربويون ونفسيون تزيد من هذا الوعي العام لدى الآباء والأمهات الجدد، إلا أنها تبقى معزولة عن الظروف الحقيقية التي تتسبب في كل المشاكل التي تعاني منها العائلة العربية وعلى رأسها: الحالة الاقتصادية والاجتماعية والوضع السياسي المحيط، لكن هذا الوعي وإن كان بسيطاً ومسطحاً في كثير من الأحيان، وتطغى عليه نزعة إمكانية "الكمال" في التربية.

 

لكنني سعيدة بهذا الوعي رغم سطحيته وسرعة معلومته، فحتى تلك المجموعات الصغيرة التي تنشأ على الفيس بوك وتسمح للأمهات بالفضفضة كما يشأن تبدو صحية وجيدة، فهذا على بساطته لم يتوفر لآبائنا وأمهاتنا الذي حملوا الهموم أسلوب حياة ونقلوها لنا جيلاً بعد جيل دون أن ينتبهوا كيف أورثونا… ذلك الغضب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.