شعار قسم مدونات

بلادٌ كلّما عانقتُها.. فرّتْ من الأضلاع

blogs-أوطاننا

تربّيْنا منذ الصّغر على حبّ الوطن والتغنّي به وترديد شعاراته حتّى لو كان مَن يلقنّنا هذه الشعارات "بيّاع وطنيّات" بامتياز. علّمونا ونحنُ نقفُ أمامَ العَلَم في "طابورنا" الصباحيّ المُعتاد مرددّينَ النّشيدَ الوطنيّ أن نبقى صامتين، وألاّ نلتفتَ يمنةً أو يسرة.. بلْ أن يكونَ نظرنا إلى الأعلى إلى حيثُ يرفرفُ العَلَم مع نسمات الهواء في صعود إلى السّماء.
 

أخبرونا أنّ قشعريرةً سَتُصيبُ قلوبنا قبلَ أبداننا ونحنُ نرددّه بحب وعزم وصوت عال، وكأنّنا نتسابق أيٌّ منّا سَيُسمع صوتَه أعلى من غيره، بل وأكدّوا لنا أنّ هذه القشعريرة تكبرُ مع تقدّمنا في العمر.. لتتحوّل إلى دموع أو على الأقل "لمعة " خفيفة في العين تثبتُ تأثرّك الكبير به.
 

وطنُكَ خانكَ يا صديقي، توقفْ عن التمحّك به، والغناء باسمه. وطنُكَ ليس لك.. لقد سرقوا الكراسي بينما كنتَ تحيّي العَلَم..

قالوا لنا بأنّ صدقَ الانتماء لهذا الوطن يتحققُ باحترامكَ لنشيدكَ الوطنيّ، وأنّ من أسس احترامكَ له أنْ تردّده كلّ صباح، معَ بداية الأسبوع ونهايته فَ هو وجبتنا "الرّوحية" التي تؤكد التزامنا بهويّتنا القومية وثوابتنا الوطنيّة، والعقاب ثم العقاب لمن يسيءُ له أو لمن يتخذهُ "هزوّا".
 

هذا الكمّ الهائل من الشّعارات "الرّنانة" والدروس القومية المرتبطة بالولاء تسقطُ أمام أول اختبار تضعُك فيه دولتك أو وطنك، أوّل اختبار لصبركَ على كلّ الأذى الذي تقدّمه لكَ، في طبق من الرّضا المُرغم وأوّل اختبار لقدرتكَ على كظم غيظك أمامَ كلّ الوجوه السياسية والقوانين التي تجبرنا على تقبّلها رغماً عن أنوفنا. قالها الرسول الكريم محمد صلّى الله عليه وسلم "والله إنّك لأحبُّ البلاد إلى نفسي.. ولولا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت" قالها وهو يغادرُ "مكة المكرمة" إلى "المدينة المنورة" بعد أن أمره الله تعالى بالهجرة في شعور فطريّ يدل على حبه لوطنه وحزنه على فراقه.. 

ورددّها الكثيرُ منّا وهو يغادرُ "سوريا " وربّما سَيرددّها الكثير أيضاً ممّن يحلمونَ بمغادرة أوطانهم التي ما فتئت تقدّم لهم.. كلّ أسباب الهجرة. أعترفُ بأنّ مادة التربية القومية كانتْ بالنّسبة لي من أكثر المواد ثقلاً على القلب والرّوح.. للّحظة التي تخرّجتُ فيها من الجامعة وأنّ استساغةَ هذه الحصة أو المادة كانَ بمثابة احتساء كأس من السّم رغماً عنك. ناهيكَ عن مادة التربيّة العسكرية -قبلَ أن تُلغى- والتي كانتْ أشبهَ بعقاب في سجن لا مفرَّ منه.
 

للأسف، لمْ تترك لنا الأنظمة العربيّة المستبدّة من سبيل لنحبّ أوطاننا حباً لا يشُوبه أيّ ضيق، أو أسى. دائماً ما كنّا نتجرّعُ هذا الحبّ بشغف لنعودَ ونأسفَ عليه عندَ أول مشكلة نقعُ فيها بسببه، مخادعة أوطاننا تقدّم لنا كلّ أسباب الانتحار، ترمينا بالرّصاص كلّ يوم، وكأنّها تنفذّ فينا حكماً بالإعدام.. لأنّنا يوماً اخترنا أن نكونَ أبناءها. تَحْملُنا على أن نلفظها بعيداً لأنّنا لم نجد تفاصيلها المنسيّة بينَ أكوام متاعنا، بل وجدنا فراشاً مليئاً بالعقارب والحيّات السّامة، كيفما تقلّبْتَ لسعتْك.
 

حقاً.. لمْ يعُدْ للنشيد الوطنيّ من قيمة سوى بالمناسبات الوطنيّة أو ربما في "المونديال "، مثله مثل أيّ أغنية وطنيّة.. تعودُ بذكرياتك إلى أيام كنتَ ترى وطنك بقلبك فتهتفُ باسمه وهو يلوّحُ لكَ من بعيد بألاّ تعود. كم يستحضرني قول "فيصل الرحيل" مخاطباً إيّانا نحن الذينَ نعتبُ على أوطاننا لحبّنا الكبير لها، وعندَ أول لحظة ضعف نحنُّ إليها وندافعُ عنها ليأتي مَنْ يسحب الكراسي من تحتنا.. ونحنُ نتفرّج عليه. وطنُكَ خانكَ يا صديقي، توقفْ عن التمحّك به، والغناء باسمه. وطنُكَ ليس لك.. لقد سرقوا الكراسي بينما كنتَ تحيّي العَلَم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.