شعار قسم مدونات

احموا الناس من الطاعون!

blogs - sanosu
الفئران قادمة، احموا الناس من الطاعون!.. وسط هذا الاصطفاف الطائفي البغيض، الذي مست نيرانه الجميع في منطقة الشرق الأوسط، تبدو صرخات المثقفين الحاملين لهموم الأمة والمنادين بوقف حمام الدم أشبه بهمسات لا يبالي بها أحد، بل وربما سخر منها البعض أو اتهموها بما ليس فيها، في مشهد أقل ما يقال عنه أنه غاية في الوضاعة والبؤس.

كتابنا لهذا الأسبوع هو رواية "فئران أمي حصة" للكاتب الكويتي الشاب سعود السنعوسي، صدرت لأول مرة عام 2015، عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات ضفاف، وهي العمل الروائي الثالث للكاتب، بعد سجين المرايا، وساق البامبو الرواية الشهيرة التي حصلت على الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر سنة 2013 وتم تحويلها إلى مسلسل عرضته بعض القنوات الفضائية شهر رمضان الماضي.

تسير رواية "فئران أمي حصة" في خطين يجمعان بين التوازي والاتصال، بين ماض لا يتجاوز عمره الثلاثين سنة، ومستقبل قريب أيضا، تخيله الكاتب سنة 2020، لكنه مغرق في الدموية والخوف في بلد صغير المساحة كالكويت، هذا المستقبل لا يمكن إلا أن يكون أفظع بكثير مما نشاهد أو نسمع عنه حاليا في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومناطق أخرى في الشرق الأوسط المنكوب، كل هذا بالاعتماد على فكرة محورية مرتبطة بعبارات عميقة نطقت بها ممثلة في مسلسل كويتي عرض في الثمانينات، تقول فيها: "الفئران آتية.. احموا الناس من الطاعون."

الفئران التي بدأت شررا ثم لظى ثم جمرا لتتحول إلى رماد، هي قادرة على التخريب وضرب الجميع بلا استثناء، وبلا رحمة، تاركة تباع الجيف تحوم حول الجثث.

فئران أمي حصة رواية متشحة بالسواد، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكنه ذلك السواد المنطقي الواقعي التحذيري، خصوصا في نظرته الاستشرافية للمستقبل الذي يبدو قاتما أكثر من أي وقت مضى، وما أحوجنا أحيانا لتشاؤم يفتح أعيننا على خطورة المرحلة القادمة، ويدفعنا ربما للعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

تحكي الرواية عن مجموعة من الأصدقاء، فهد وعائلته سنية المذهب، وصادق وعائلته المنتمية للطائفة الشيعية، والراوي الذي لا نعرف له اسما سوى لقب "كتكوت"، بالإضافة إلى حكمة العجوز أمي حصة وحكاياتها المليئة بالمعاني، وقد بدأت سنوات طفولة الأصدقاء إبان حرب الخليج الأولى، أو ما يعرف إعلاميا بالحرب العراقية الإيرانية، ليبدأ معها رصد واقع المجتمع الكويتي في وقت بدأت فيه الخلافات الطائفية تنفث سمومها ببطء وتطل برأسها شيئا فشيئا، ولو بشكل محتشم، وهذا قبل أن يأتي الغزو العراقي سنة 1990، ليكون لحظة مفصلية في تاريخ البلاد، ثم عرض لأحداث عدة تركت بصمتها هناك، كطرد الفلسطينيين من البلاد بعد تحرير الكويت على خلفية مساندة ياسر عرفات لاحتلال البلاد على يد القوات العراقية، رغم أن الفلسطينيين البسطاء لا ناقة لهم ولا جمل في تعقيدات السياسة.

بالإضافة طبعا إلى أحداث 11 سبتمبر وسقوط نظام صدام حسين في العراق، وحرب لبنان 2006، وحادثة مقتل عماد مغنية في سوريا والخلاف حول تأبينه، وأحداث أخرى أظهر الكاتب ذكاء في تصوير مدى تعاطي أبطال الرواية معها في ظل التيه الطائفي الذي بدأت البلاد -والمنطقة بأكملها- تغرق فيه شيئا فشيئا، مع ما واكبه من صعود مطرد ومخيف لخطاب الكراهية.

صحيح أن الرواية تنتهج طابعا محليا بتناولها لتفاصيل كويتية محضة، إلا أن أحداثها ونظرتها الاستشرافية المستقبلية تنطبق على كل الأقطار العربية على السواء، فالفئران التي بدأت شررا ثم لظى ثم جمرا لتتحول إلى رماد، هي قادرة على التخريب وضرب الجميع بلا استثناء، وبلا رحمة، تاركة تباع الجيف تحوم حول الجثث.

هو تاريخ وطن، وربما أمة عربية بأكملها منذ بدايات 1985 إلى 2020 التي تخيل سعود السنعوسي أطوارها.

وتبقى فكرة "جماعة أولاد فؤادة" التي أسسها الأصدقاء، والتي تخيل الكاتب أنها ستكون حاملة مشعل إنقاذ الوضع مستقبلا، بمثابة صرخة مدوية في وجه الطائفية، ودعوة لكلمة سواء بين المذاهب، رغم المشهد الساخر المرير الذي توقعه الكاتب للجماعة التي اتفق الخصوم شيعة وسنة على معاداتها، معتبرين أنها خارجة عن الملة والدين؛ فقط لأنها تدعو إلى نبذ الخلافات والتطاحن المذهبي المقيت، ومن سخرية القدر أيضا أن لجنة الرقابة في الكويت منعت رواية "فئران أمي حصة" وأصدرت قرارها بسحب نسخ الكتاب من مكتبات البلاد لأسباب ظلت مجهولة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.