شعار قسم مدونات

هي عاملة منزليّة وليسَتْ أُمًّا

blogs-بينغ

ما دفَعَني لكتابة هذا المقال هو فيديو شاهدْتُه لعاملة منزليّة تُسيءُ معاملة طفل تُرِكَ معها وحدَها في منزل مُغلق، فَضَحَتْها كاميرات وَضَعَها الأهل في البيت بعد أنْ لاحظُوا خوف الطفل مِن العاملة، أثارَ الفيديو رُعبي وخوفي، كيفَ يُترَكُ طفلٌ لا يستطيع التعبير معَ غريبةٍ في بيْت مُغلق بدون أيِّ نوع مِن أنواع الرقابة؟! هل يَترُكُ أصحاب المنزل مُقتنياتِهم الثمينة وأموالَهم أمامها بهذا الشكل؟!
 

بالطبع لا، فالأموال تُحفظ في البنوك، والمجوهرات في خِزانات مُحكمة، بينما يُترَكُ فلذات الأكباد بدون حسيب ولا رقيب مع امرأةٍ قادمة مِن الخارج لا نعرف شيئًا عن حياتها السابقة، لا نعرِف إنْ كانت تُعاني مِن أمراضٍ نفسيّة مُستفحلة مثلًا، فالكشف الطبّيُّ المطلوب لجلبِها يهتمُّ بالصحّة الجسديّة ولا يُعطي أيَّ اهتمام للصحّة النفسيّة وهي أكثر خطورة.
 

كما أنّ الرجل يتحمَّل جزءًا مِن المسؤوليّة، فهو يرمي مسؤوليّات الطفل كلَّها على الأُمّ؛ ما يُنهكُها تمامًا، فتجِدُه يُقسِّمُ وقتَه بين العمل والأصدقاء، وكأنّه لا جديد أُضيف لحياته

تذكّرْتُ حادثةً قديمة لامرأة تَعرَّفْتُ عليها مرّة، كانَتْ تمدح عاملتها المنزليّة كثيرًا حتّى خطرَ ببالها يومًا أنْ تَضع كاميرات في المنزل، ورأَتِ العجب العُجاب، فبعد أنْ كانتْ تثق بها ثقة عمياء غيَّرَتْها فورًا بل أصبحَتْ تُغيِّر كلَّ أسبوع عاملة، حتّى يئسَتْ أخيرًا وقرَّرتْ أنْ تُزيل الكاميرات؛ إرضاءً لضميرها حتّى لا تعرِف ماذا يحصل بغيابها.
 

هل يعرفُ كلٌّ مِن الزوجيْن -اللذان يتشاركان في المسؤولية- أنّ سنوات عُمر الطفل الأولى هي الأهمّ في التربية وتأسيس الشخصية؟! هل يعرف كلٌّ منهما أنّ سُوء المعاملة مِن قِبل الخادمة قد يصنع منه إنسانًا مُدمِّرًا للأبد؟! ثمّ ماذا نتوقّع مِن الخادمة حتّى وإن كانَتْ سليمةً نفسيًّا؟ هل نتوقّع أنْ تركض لتحميَ طفلنا مِن الوقوع كما لو كانتْ أُمًّا له؟! أم نتوقّع أنْ تجوب المنزل وراءه ليكمل وجْبَتَه الصحّيّة؟! هل ستسهر على راحته إنْ مرِض؟! لا، هي ليسَتْ أُمَّه، ولا تربِطها به مشاعر الحنان التي تملكها الأم ، كما أنّها ليستْ مُخوَّلة لفعل ذلك، ليسَتْ مُمرِّضة ولا خبيرة في التربية، بل إنّها رُبّما تُطبّق عليه ما طُبِّقَ عليها كطفلة، هذا ما اعتادتْه وتربَّتْ عليه، هي عاملة منزليّة مَهَمّتها أنْ تُساعدنا في تنظيف المنزل لنتفرَّغ نحن لواجباتنا.
 

قد يقول البعض إنّ عَمَلَ المرأة هو السبب في هذا الإهمال. تُثبِتُ الحقائق أنّ هذا ليسَ صحيحًا، فالانشغال عن الأولاد ليس سببه بالضرورة عَمَل المرأة، ليسَتْ كلُّ أُمٍّ غيرِ عاملة متفانيةً في أمومتها، وليسَتْ كلُّ أُمٍّ عاملةٍ مُقصِّرةً. كما أنّ الرجل يتحمَّل جزءًا مِن المسؤوليّة، فهو يرمي مسؤوليّات الطفل كلَّها على الأُمّ؛ ما يُنهكُها تمامًا، فتجِدُه يُقسِّمُ وقتَه بين العمل والأصدقاء، وكأنّه لا جديد أُضيف لحياته، تاركًا الأُمَّ تغوص في تفاصيل الطفل اليوميّة وحدَها دون راحة ولا تقدير.
 

قد يُقال: كيف تُشجِّعون المرأة على العمل إذن؟ نعم نحنُ نُشجِّع المرأة على العمل ولكنْ لا نقبل أبدًا أنْ يكون عملُها على حساب صحّة طفلها الجسديّة أو النفسيّة، هذا الطفل هو المستقبل، ونحن نُريد لمستقبلنا ازدهارًا وتطوُّرًا، لا نُريد أنْ يمتلِئ المجتمع بالأمراض النفسيّة الناشئة عن إهمال الأهل.

وبعد كلّ اختبار صعْب ننجح فيه هناك فَرَجٌ مِن الله وعِوَض، فلْنرحم أطفالنا، ولْنُعْطِهم مِن وقتنا، ولْنقُمْ بواجباتنا، فالدّنيا تدور وما نُقدِّمه لهم اليوم سنجدُه بِرًّا واحترامًا وحُبًّا

للعمل وقْتُه المناسب، ولنا في حياتنا أولويّات، إنْ تعاوَنَ الزوجانِ وتوافرَتِ العائلة المُتكافلة فكلّ شيء ممكن، على الأبِ أيضًا أنْ يعِيَ أنّ انخراطه في تربية أطفاله هو جزء مِن مسؤوليّاته التي لا تقتصر على جلب المال فقط، كما أنّ وُجود الجدّات أو العمّات أو الخالات أو غيرهنّ ممّن يربطهنّ بالطفل علاقة حبٍّ أو دمٍ يُساعد الأُمَّ على الاستمرار في وظيفتها، معَ ضمان وجود المحيط المناسب للطفل، ولا نُنكر أيضًا وجود مُربّيات مُخضرمات يُمكن الاستعانة بهنَّ إنْ دَعَتِ الحاجة.
 

أمّا إنْ لم تتوافر أيٌّ مِن الأمور السابقة ولم تَجِدِ المرأة بُدًّا مِن الجلوس معَ الطفل في سنوات عمره الأولى وحتّى يصلَ لسنِّ التعبير عمّا يُريد وعمّا يُزعجه فيجِبُ على الأُمِّ هُنا أنْ تُعيد حساباتها، وهذا لا يعني أبدًا أنّ حياتها العمليّة انتهت، قد تعمل بدوام جزئيّ مثلًا، أو تُغيِّر مجال العمل إنْ كانَ يستدعي ساعات طويلة من الابتعاد عن المنزل، أو أنْ تأخذ إجازة طويلة لتستمتع بأُمُومتها إلى أنْ تتوافر ظروف عودتها لعملها، على أنْ تستمرّ في تثقيف نفسها، وتطويرها بكلّ الطرق الممكنة.
 

تضعُنا الحياة أمامَ اختبارات عديدة، ومواقفَ تتطلّب التضحية، قد نتخلّى عن أشياء نُحبُّها؛ مِن أجل مَن نُحبُّهم ورحمةً بهم، فكيف إنْ كانوا أحباب الله وهداياه لنا، هو ليس أوّل اختبار لإنسانيّتنا ولن يكون الأخير، وبعد كلّ اختبار صعْب ننجح فيه هناك فَرَجٌ مِن الله وعِوَض، فلْنرحم أطفالنا، ولْنُعْطِهم مِن وقتنا، ولْنقُمْ بواجباتنا، فالدّنيا تدور وما نُقدِّمه لهم اليوم سنجدُه بِرًّا واحترامًا وحُبًّا، سنجدُه رحمةً عندما نكون في أمسّ الحاجة لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.