شعار قسم مدونات

انتخاب الترس الأكبر في عالم مفلس

blogs - trump
لم يكن فوكوياما أول من جرأ على إعلان نهاية التاريخ. فبين منتصفي الخمسينات والستينات، ذاعت في الولايات المتحدة أطروحة "نهاية الأيديولوجيا The End of Ideology"، التي تبناها مجموعة من علماء الاجتماع المحافظين كريمون أرمون، سيمور مارتن ليبست، ودانيال بيل.

كانت "دولة الرفاه" بالنسبة لهؤلاء هي التسوية التاريخية التي توقف عندها الجدل بين اليمين واليسار، وينتهي عصر الأيديولوجيا في السياسة، وندخل عصر البيروقراطية أو دولة المديرين Managerial state (الترجمة هنا لا تتوخى الدقة القاموسية، وإنما دقة المعنى)، حيث الدولة شركة كبيرة، والسياسيون هم موظفوها ومديروها، والسياسة هي عملية حسابية لضبط مجموعة من المعادلات الرياضية الصارمة.

التقدم التكنولوجي في وسائل الاتصالات، والسينما، والفيديوجيمز، ومواقع التواصل الاجتماعي، خلق عالما افتراضيا له فعاليته المستقلة عن العالم الملموس.

مرت السنوات، ونجح رواد الأعمال في أخذ مكان السياسي من إدارة العملية الحسابية، ولم يبق للسياسي سوى أن يتحلى أحيانا بجرأة خجولة يختلف بها مع أصحابه هؤلاء، ويعدل حساباتهم، بعد التأكيد أنه إنما يفعل ذلك لأجل صالحهم؛ إنه عصر الديمقراطية الليبرالية، اختيار الإنسان الأخير.

صاحبت تلك الصياغات النظرية، تغيرات في البنية الاجتماعية، أدت إلى ترسيخها. فالتقدم التكنولوجي في وسائل الاتصالات، والسينما، والفيديوجيمز، ومواقع التواصل الاجتماعي، خلق عالما افتراضيا له فعاليته المستقلة عن العالم الملموس. هذا الانتقال إلى العالم الافتراضي أدى إلى تحول في "ميكانيزمات الإشباع" لدى الفرد، ونعني بذلك التعبير الممارسات والإبداعات التي يشبع عبرها الإنسان ميوله الغريزية سواء للتسامي أو للالتذاذ.

فبدلا من البحث عن الإشباع في الحماسة الأيديولوجية والشعور بالانتماء والدفاع عن القيم والدخول في علاقات فعلية، كعلاقات الصداقة والحب والتواصل العائلي، صار الإشباع الافتراضي لكل ذلك منافسا لتلك الممارسات المادية.

هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الاجتماعي، فإن التحول الافتراضي أدى إلى نشأة قطاعات خدمية جديدة كشركات البرمجة والإنترنت والإنتاج الفني والإعلامي، وكلها قطاعات اقتصادية غير إنتاجية بالمعنى المادي الكلاسيكي لكلمة "الإنتاج" المرتبط بعالم الصناعة والسلع المادية. كما أدى إلى التوسع في "الأمولة Financialization" أي الاقتصاد القائم على توليد الربح عبر التجارة بالمال دون الدخول في عملية إنتاجية حقيقية، كما في أسواق المال والبورصات.

انعكست أيضا تلك التحولات الاقتصادية بدورها الجدلي على عالم الأفراد، سواء كعاملين أو كمستهلكين، حيث لم تفترض في كلا الطرفين ذات الجدية والكدح الذي كان يفترضه عالم الصناعة في أفراده. المهم أن كل ذلك رسخ حالة الإفلاس الأيديولوجي في عالم السياسة.

في هذه الأجواء، يذهب الناخب الأمريكي إلى صندوق الاقتراع ليختار واحدا من المرشحين الأبغض له منذ عقود طويلة. يفهم الناخب الأمريكي أن كلا من ترامب وكلينتون، المرشحين للرئاسة الأبغض له مقارنة بسابقيهم، ليس إلا ترسا جديدا يضاف إلى منظومة آلية عمياء تحكم السياسة في عصر الديمقراطية الليبرالية، ربما فحسب يكون مكانهما في المنظومة أكبر من المكان والدور الذي يلعبه هذا الناخب نفسه.

لا يستحق الناخب الأمريكي أو غير الأمريكي غير هؤلاء ما لم يتحول اشمئزازه وسخطه على الجميع إلى موقف ورؤية وممارسة وحياة يومية.

ذهبت الأيديولوجيا، أو تخلصت منها تلك المنظومة بالأحرى، ولكن ذهب معها معنى السياسة، الرؤى الكبرى، والقيم والغايات النبيلة، والنضال والجدوى، والتناقضات التي تعطي الديمقراطية الحياة والمعنى، ونشأ عالم مفلس لا ينتج إلا أمثال ترامب وكلينتون.

ليس ترامب غريبا عن المنظومة كما يدعي، ربما يكون فعلا قادما من خارج المؤسسة، لذا يفتقد إلى تصنعهم ولياقتهم الزائفة، لكنه ابن هذا العالم؛ عالم رواد الأعمال الذين كونوا ثرواتهم عبر أنشطة خدمية، هي غالبا من طراز الملاهي الليلية والفنادق التي يملكها الأخير، ويبحثون عن زوجة مثيرة، عارضة أزياء، بعد مسيرة طويلة ربما لا نهاية لها من التسكع بين الساقطات.

هذا هو الرأسمالي الذي صنعه عالم ما بعد الأيديولوجيا ضدا لصورة الرأسمالي الكلاسيكية، ذلك الشخص الجاد، المتدين أحيانا، الذي كون ثروته عبر مشروعات هائلة أدارها بحصافة رياضية. كلاهما لا يعبأ كثيرا بالواجبات الأخلاقية في سعيه للثروة، لكنهما مع ذلك ينتميان إلى عالمين مختلفين.

لا يستحق الناخب الأمريكي أو غير الأمريكي غير هؤلاء ما لم يتحول اشمئزازه وسخطه على الجميع إلى موقف ورؤية وممارسة وحياة يومية غنية تغادر هذا العالم المفلس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.