شعار قسم مدونات

ضحايا الأمل

BLOGS - HUMANITY

ليلة الأمس كنت أقضي الليل في مشاهدة أحد الأعمال الدرامية.. كنت أشاهده بعيني وأسمعه بأذني فقط.. لكنني في المقابل كان عقلي كعادته يجول في أماكن عديدة "بلف وبدور".. ولم أكن أستطيع منعه من التفكير بكل الأمور التي أعيشها.. الوضع الأسري.. الوضع المادي.. الوضع الحياتي.. الوضع المهني والوظيفي.. كلها أمور لا تستطيع التحكم بنفسك عندما تبدأ بالتفكير فيها..

عادة ما أحاول تجنب الحديث في هذه المواضيع إلا مع أصدقائي المقربين.. الذين تتكشف أمامهم الأوراق بسهولة.. ولا نستطيع إخفاء ما نفكر فيه وإظهار مشاعر أخرى غير التي نشعر بها.. أحاول ألا أُظهر أي جانب ضعف في إحدى هذه المجالات أمام أحد.. حتى لو كان قريباً.. أحاول أن أبني حصناً حول نفسي كي لا يعلم أحد ما يدور بداخلي.. أحاول كثيراً الهرب من الواقع إلى خيالِ أبنيه بيني وبين نفسي.. وسأعود للحديث عن هذا الخيال.
 

لكل في حياته منا ذاك المجهول الذي يرتكن عليه ويحسب له ألف حساب، فتارةً يُمنِّي نفسه به، وتارة يتخيله معه، وتارة يتحدث معه، وتارةً يرى نفسه وهو في عالم المجهول.

أعود لأتحدث عن إحدى المشاهد التي كانت بهذا العمل الدرامي، كان الحديث يدور بين شخصين عن أجمل شيء في الحياة، وعن الشيء الذي يجعل المرء سعيداً، لم يكن الجواب هو المال أو الحب أو الوظيفة والمنصب المرموق، كان الجواب هو الأمل، اليوم الذي نحياه بأمل هو الذي يجعل منا أشخاص سعداء، ننظر ليومنا بتفاؤل، ننظر لمستقبلنا أنه مشرق ناصع البياض، أحلامنا وردية قابلة للتحقق، سرحت في تلك العبارة "السعادة هي أن نعيش بأمل.. اليوم الذي نفقد فيه الأمل نفقد فيه السعادة"، لا أنكر أنني واحدة من الذين يحاولون أن يقنعون أنفسهم بأن الأمل كل الأمل في المستقبل.. سأحقق حلمي.. سأمتلك المنزل الذي أتمنى.. والسيارة التي أريد.. سأقضي حياتي بالسفر حول العالم.. سأقابل الشخصيات التي أُعجِبت فيها.. سأعمل في المجال الذي أحب.. وسأكون واحدة من أهم الشخصيات العاملين في هذا المجال..

الخيال.. كل هذه الأمور سأعيشها نعم.. ولكن في خيالي فقط.. حين أنظر إلى الواقع الذي أعيشه أجد نفسي كنت في دوامة الأمل.. أجد أنني كنت أتضاحك على نفسي.. حين أسقط الأمر على الواقع.. مستقبلي مجهول ليس مضمون.. ووضعي الوظيفي الذي هو أساس لكل شيء في أسوأ أوضاعه.. لكننا نأمل بمجهول حتى نستطيع العيش.

المجهول.. لكل في حياته منا ذاك المجهول الذي يرتكن عليه ويحسب له ألف حساب، فتارةً يُمنِّي نفسه به، وتارة يتخيله معه، وتارة يتحدث معه، وتارةً يرى نفسه وهو في عالم المجهول.
 

قد لا يكون المجهول مكاناً وفقط، بل قد يكون شخصاً، قد يكون دراسةً، قد يكون عملاً، قد يكون حلماً، أيّاً كان.. فإنه يحملنا من عالمنا الواقعي الذي نعيش به ويدخلنا لعالم آخر تماماً.. عالم وردي.. نتخيّل به الأشخاص.. ونرسم به الأحداث.. نتخيل به حتى المشاكل.. ونرى أنفسنا ونحن نحلها بمنطقية وعقلانية قد لا نكون نتحلى بها أصلاً..
 

الخيال جميل، وربما يحفزنا على العمل أكثر للوصول للشيء الذي نتمناه، لكن الإسهاب فيه قاتل، فهو ينقلنا من حياتنا لحياة أخرى غير موجودة، حياة ربما لم نسمع بها، حياة ربما لم ولن نعشها، حياة تشبه السراب تماماً.
 

كل منا يجعل من نفسه "ضحية أمل" إن أعطى الأمل أكثر مما يستحق.. إن تجاوز حدوده فيه.. إن لم ينظر للواقع ألف مرة.. ويتعايش معه.

مهما كان خيالك واسع.. يجب أن تكون واقعيتك أوسع.. لا أنفي بمقولتي هذه أهمية الخيال والحلم.. على العكس تماماً.. فنحن أحياناً نهرب من صدماتنا بالواقع لجمال الخيال.. وكثيراً ما يكون الحلم هو بوابة الواقع.. وأنا أؤمن تماماً بالمقولة التي تقول "نحن.. ما نحلم به".. لكني أخشى على أنفسنا الانغماس في جمال الحلم.. ونسيان مرارة الواقع.. أخشى أن نظن أن الحياة ستسير تماماً كما أحلامنا.. وننسى أن الواقع كثيراً ما يحتم علينا أموراً أكبر وأشد من الحلم.
 

نحن نختبئ خلف المجهول لأننا لا نعرفه.. نحن نختبئ خلف المجهول لأنه أجمل بكثير من الواقع.. نحن نختبئ خلف المجهول.. لأنه مجهول.. نعيش في الخيال لأنه يعطينا الأمل .. لكنه في ذات الوقت يجعلنا من "ضحايا الأمل".. نتمنى ونعمل.. ونمنِّ أنفسنا بخيال قد لا يتحقق إلا حين يسدل الليل بأستاره علينا.. ونخلد للنوم.. نعيش على أمل أن نعيش حياة نتمناها.. ونُصدّم بالواقع شيئاً فشيئاً.
 

كل منا يجعل من نفسه "ضحية أمل" إن أعطى الأمل أكثر مما يستحق.. إن تجاوز حدوده فيه.. إن لم ينظر للواقع ألف مرة.. ويتعايش معه.. لكن مع ذلك فنحن بدون الأمل لا نستطيع أن نعيش حياة كاملة.
 
قد لا يتفق معي المعظم.. وقد أتلقى تعليقات تنفي كل كلامي.. وقد يحين وقت أتراجع فيه عن كل ما كتبته.. لن تحصل مقالتي على عدد كبير من القراء.. لكنني كتبتها رغم ذلك.. كتبتها لأنني أبحث معكم عن الواقع.. كتبتها لأنني أريد البحث عن حل.. كتبتها لأن لدي قليل من الأمل.. أنني سأصل وستصلون أيضاً إلى ما نريد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.