شعار قسم مدونات

رحلة الغرناطي التائه

blogs - Andalos

نحن الآن في عام 1091 ميلادية، هناك في غرناطة الأندلس، يفقد محمد أخاه الربيع في الغابات القريبة من المدينة، تتدهور حالة الأب ويخيم جو من الحزن على المنزل الأندلسي الهادئ.

 

سبع سنوات كاملة، يظهر بعدها من يقول أنه رأى الربيع في بلنسية، يتاجر بالقرمز والأعشاب الطبية، لتبدأ رحلة محمد المضنية للبحث عن شقيقه المفقود في المدينة التي تقع وراء نهر خوكار، ضمن أراضي المسيحيين الإسبان، خارج حدود الأندلس الإسلامية.

ويا ليتها توقفت عند هذا الحد…

 

تستغرق الرحلة سنوات طويلة، وتنتقل من أوروبا إلى المغرب الأقصى، وبعدها إفريقية، ومنها إلى مصر وبلاد الشام، قبل أن تصل إلى أنطاكية الواقعة تحت سلطة الروم.

 

سنوات يطارد فيها محمد بإصرار شديد أملا ضعيفا بالعثور على شقيقه الربيع الذي يسمع في كل مرة ومن مصادر مختلفة بأنه "مر من هنا"..

 

فهل سيعثر عليه في نهاية المطاف، وبعد كل هذا العذاب؟

 

إنها رواية "رحلة الغرناطي" للكاتب اللبناني ربيع جابر، صدرت لأول مرة عام 2002، عن المركز الثقافي العربي، وجابر هو الأديب الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" عام 2012 عن روايته "دروز بلغراد: حكاية حنا يعقوب"، وله أيضا مجموعة من الأعمال المميزة الأخرى، كـ"الاعترافات"، "أميركا"، "يوسف الإنجليزي"، "الفراشة الزرقاء"، وغيرها..

 

كثيرة هي الروايات التي تناولت موضوع الأندلس، خاصة خلال مرحلة السقوط والانهيار، ولعل أشهرها رائعة "ثلاثية غرناطة" للمبدعة المصرية الراحلة رضوى عاشور، لكن رواية "رحلة الغرناطي" تختلف عنها جميعا، سواء من ناحية الأسلوب أو طريقة تناول الطرح أو معالجة الفكرة المناقشة، فجابر لا يعتمد هنا على البكائيات واللطميات المعتادة التي تتحسر على ضياع الأندلس أو الفردوس المفقود، بل يحاول تصوير المسألة من منظور مغاير اعتمد فيه على الإيجاز والغموض المحمل بالإسقاطات التي سيتمكن القارئ المتمعن والمركز من فك شفراتها.

 

ستجبركم الرواية على ترك عين واحدة مفتوحة على حاضرنا المعاصر، عبر رسائل وإسقاطات لخصها الكاتب بعبارته الموجزة والمعبرة

قد يعتقد البعض -اعتمادا على الملخص المذكور أعلاه- أن "رحلة الغرناطي" رواية تنتمي إلى أدب الرحلات، استنادا إلى الكم الهائل من المواقع والأماكن التي جرت الأحداث فيها، من غرناطة وبلنسية غربا إلى أنطاكية شرقا، لكنها أبعد ما تكون عن ذلك، فمن عادة هذه النوعية من الأعمال الأدبية أن تضفي على المكان زخما معينا عندما يتم التركيز على مدينة أو منطقة خلال السرد، لكننا سنلاحظ هنا تنقل جابر ببطله سريعا بين مدينة وأخرى وعدم توقفه كثيرا إلا في أماكن محددة.

 

كما أن تصنيفها ضمن دائرة روايات الأدب التاريخي لن يكون في محله، فقد تزامنت الفترة المذكورة مع مجموعة من الأحداث الفارقة في التاريخ الإسلامي، كتضعضع حال الحكم الإسلامي في الأندلس قبل السقوط، وانطلاق الحملات الصليبية باتجاه الشرق، واحتلال القدس والفظائع التي ارتكبت فيها بحق الأبرياء، لكن الكاتب اكتفى بالمرور على هذه الأحداث بسرعة وإيجاز.

 

طيب، ما دام الزمان والمكان خافتي الحضور في رحلة محمد الغرناطي الطويلة، كيف سنصنف هذه الرواية إذن؟

 

"رحلة الغرناطي" رواية نفسية فلسفية بامتياز، تبرز معالم النفس البشرية وتسبر أغوارها لتكشف لنا تلك الدواخل التواقة للمستحيل والمتمسكة بالأمل والحياة، فالواضح هنا أن جابر حاول إيصال فكرة المعاناة التي وجدها الغرناطي وهو يبحث عن أخيه وعدم استسلامه لمطبات الطريق وعوائقه.

 

يلاحظ أيضا أن عالم الأحلام كان حاضرا بقوة في رحلة محمد الغرناطي، على شكل رسائل أو تحذيرات مشفرة تتراوح بين العاطفة حينا والألغاز حينا آخر، وجاءت لترسخ بعض الصور في الذاكرة لما حدث أو سيحدث، كمفاتيح لقصة الغرناطي مع شقيقه المفقود.

 

أعتقد بأن ذكاء الكاتب قد تجلى واضحا في نهاية العمل، لأنها جاءت صادمة وغير متوقعة، عكس كل التخمينات السابقة، ورغم أن عددا كبيرا من القراء لم يستسيغوها، إلا أن تأملها من عدة أوجه سيكشف لنا أنها تحمل بين ثناياها الرسالة الرئيسية للرواية ككل، وهذا ما سأترك لكم مهمة اكتشافه بأنفسكم.

 

كتبت "رحلة الغرناطي" بلغة واضحة وجمل قصيرة مباشرة تجمع بين البساطة والجمال، وتبتعد عن الإغراق المبالغ فيه في الشاعرية الذي قد يضر بعض الأعمال الروائية أكثر مما ينفعها، ولأن عدد صفحاتها لا يتجاوز الـ 221 صفحة، فإن قراءتها ممكنة في مدة زمنية قصيرة ستعيدكم بالتأكيد إلى أجواء الأندلس والشرق الساحرة، لكنها ستجبركم على ترك عين واحدة مفتوحة على حاضرنا المعاصر، عبر رسائل وإسقاطات لخصها الكاتب بعبارته الموجزة والمعبرة:
"لا شيء يعود كما كان.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.