شعار قسم مدونات

ترمب وهنتنغتون وأوربان الثاني

Protestors march during a demonstration against U.S. President-elect Donald Trump near Trump Tower in the Manhattan borough of New York City, December 12, 2016. REUTERS/Shannon Stapleton

كتبنا في المدونة السابقة، أن أجهزة التخطيط الاستراتيجي لدى اليمين التقليدي الأمريكي تحاول أن تجد سياقاً عاقلاً تقليدياً ليحتويَ أفكار ترمب ووعوده الانتخابية، وأن تلخيص السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات القادمة، ربما يكون منح شرق أوروبا لروسيا مقابل شرق آسيا، ومنح سوريا لروسيا مقابل إيران. ويبدو أن هؤلاء المخططين الاستراتيجيين وجدوا مرجعية لسياساتهم المقترحة في فكرة صمويل هنتنغتون القديمة عن صراع الحضارات، وهي فكرة أبداها في محاضرة عام ١٩٩٢ ثم في مقال عام ١٩٩٣ ثم في كتاب عام ١٩٩٦.

 

هنتنغتون كان يتكلم عن العداوة بين الولايات المتحدة والصين، وبين الولايات المتحدة والمسلمين، ويتكلم عن حلف ضروري بين المسلمين والصين، وأن على للولايات المتحدة أن تحاول التحالف مع الهند وروسيا، عملاقي آسيا الآخَرَين، لحرمان الصين منهما، والاستعانة بهما عليها.  وكان يقول في كتابه إن الفروق بين الإسلام كثقافة والليبرالية الديمقراطية الغربية هو الذي سيؤدي إلى الصراع بينهما، وكذلك الحال مع الثقافية التراتبية النظامية الكونفوشيوسية في الصين. إلا أن أي قارئ عالم بتاريخ هذا الرجل الذي لم تخلُ حرب أمريكية في النصف الثاني من القرن الماضي من استشارته، يدرك أنه كان يفكر بطريقة عسكرية جغرافية محضة، لا دخل للأديان والعقائد والثقافات بها. 

 

إن العقيدة العسكرية للولايات المتحدة، هي ألا تسيطر قوة معادية لها على الشواطئ المقابلة لشواطئها سواء في المحيط الأطلسي أو الهادي، أي أن غرب أوروبا وشرق آسيا لا بد وأن يكونا حليفين للولايات المتحدة. وأن على واشنطن أن تعادي أي قوة دولية منافسة تحاول السيطرة على أي من هاتين المنطقتين.

 

 فإذا نظرنا إلى العالم ما بعد الحرب الباردة، وجدنا أن الخطر الروسي على غرب أوروبا بل حتى على شرقها تراجع في التسعينيات وأوائل الألفية، بينما الخطر الصيني على شرق آسيا يتعاظم. وإذا مددنا أمامنا خريطة العالم اليوم، لوجدنا أن أوروبا الغربية حليفة لواشنطن، وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ضعيفتان فلا خطر استراتيجياً منهما، فلا يبقى إلا آسيا، وفي آسيا عملاقان، الهند والصين، وفيها أمة صغيرة بدولة كبيرة هي روسيا، وأمة كبيرة بلا دولة، هي المسلمون.

 

أما الهند فموقعها الجغرافي لا يهدد الولايات المتحدة لبعدها عن الشواطئ المقابلة لها، وأما روسيا فإن أقصى طموحها اليوم هو التوسع في جورجيا وأوكرانيا والبلطيق الملاصقات لها، لا اجتياح غرب أوروبا، وإن كان لا يُدرى ما يكون من أمرها غدا.

 

أما الصين فإنها هي الخطر من حيث الموقع الجغرافي والاقتصاد المتعاظم والإنفاق العسكري والموارد البشرية. وهي دولة مركزية حسنة التنظيم متماسكة البنيان صعبة الاختراق في هذه المرحلة من تاريخها على الأقل.

 

سيحاول دونالد ترمب وفريق من الدعاة الإنجيليين التلفزيونيين تصوير التحالف الروسي الأمريكي على أنه تحالف للبروتستانتية الغربية مع الأرثوذوكسية الشرقية كما كانت دعوة أوربان الثاني للحملة الصليبية الأولى

أما المسلمون فإن كانت الصين خطراً لأنها دولة مركزية فإنهم خطر تحديداً لأنهم ليست لهم دولة مركزية. وها هي دولهم التي كان أنشأها الاستعمار لتفريقهم تنهار، والمسلمون، سنة وشيعة على حد سواء، يقاتلون عابرين للحدود مدركين تماماً أنها ليست أكثر من خطوط وهمية على الورق.  صحيح أنهم اليوم يقاتلون أنفسهم سنة وشيعة ولكنَّ اهتراءَ الحدود العربية الكلاسيكية، يسمح لهم إن أرادوا أن يقاتلوا إسرائيل، وأن يغرقوا أي محاولة للغزو الأجنبي الشامل، على طريقة غزو جورج بوش الابن للعراق، في حرب عصابات مكلفة جداً لها أول وليس لها آخر.

 

لقد كتب هنتنغتون كتابه وحروب العصابات التي يخوضها المسلمون مقصورة على أفغانستان والشيشان وكشمير ولبنان، لكن هذه الحروب كانت كافية ليدرك المخطط الاستراتيجي المحنك، العالم بفنون الحروب بالوكالة إبان الحرب الباردة، خطر هذه الكتلة البشرية المسلحة التي ليس لها قيادة مركزية، وأن خطرها هذا معتبر على خصومها وحلفائها معاً. ثم جاءت حروب الولايات المتحدة والعراق في ١٩٩١ ثم في ٢٠٠٣ لتفاقم الخطر من وجهة نظر هنتنغتون ومن يتبنون نظريته.

 

واليوم أصبح أي احتلال أمريكي لبلد كالعراق أو سوريا أصعب بما لا يقاس، بسبب انتشار هذه المليشيات التي ليست جيوشاً مركزية يمكن هزيمتها بهزيمة قياداتها، وكون الشعبين العراقي والسوري تحولا إلى شعبَين مسلحَين. ثم أصبحت هذه هي حال اليمن وليبيا أيضاً. لذلك فإن خطة ترمب في التعامل مع منطقتنا هي تقوية كل ما يقسم هذه الأمة ويفتتها، أي تقوية الديكتاتوريات العسكرية، والعداوات الطائفية.  وإن قويت أي طائفة من طوائف هذه الأمة، أو أي عرق أو أي جماعة، على البقية بما يمكنها من توحيد الكل أو أن يتعدى نفوذها نطاقها الجغرافي، فإن إسرائيل تتكفل بها عسكريا.

 

وعليه فإن سياسة دونالد ترمب القائمة على معاداة الصين، ومعاداة الإسلاميين، سنة وشيعة على حد سواء، والاعتماد في حكم الشرق الأوسط على الديكتاتوريات العربية العسكرية وعلى إسرائيل، والتقارب مع روسيا والهند، تكاد تكون منقولة نقلاً من كتابات هنتنغتون، سواء في صراع الحضارات، أو في كتاباته الأقدم في ستينيات القرن الماضي حيث كان يمدح كفاءة ديكتاتوريات العالم الثالث في حفظ الاستقرار (كتابه عن الاستقرار السياسي في المجتمعات المتغيرة عام ١٩٦٨ مثلاً).

 

وترمب وهنتنغتون كلاهما تقليدي أكثر مما يظن الناس، فسياسة التفرقة بين الصين وروسيا سياسة ريتشارد نيكسون، وسياسية الاعتماد على الديكتاتوريات العربية لقمع أي عاطفة وحدوية بين سكان هذه المنطقة، سواء كانت شيوعية أو قومية أو إسلامية، هي سياسة بريطانية ورثها الأمريكيون وأكد عليها المحافظون منهم، وسياسة الاعتماد على إسرائيل للقيام بالحملات العسكرية في المنطقة نيابة عن الولايات المتحدة أو بريطانيا وفرنسا قبلها، هي سياسة معتمدة منذ حرب السويس عام ١٩٥٦، وهلم جرا.

 

وترمب، كما هنتنغتون، يغطي هذه الاعتبارات الجيوسياسية المادية المحضة بالخطاب الديني الثقافي: التقارب مع روسيا هو حلف البيض المسيحيين ضد الصفر الصينيين والسمر المسلمين، هو تحالف الأوروبيين ضد الآسيويين، تحالق العقلاء المتحضرين ضد الهمج المجانين، هو امتداد لفتوحات الاسكندر ضد الفرس، والبيزنطيين ضد الأمويين والعباسيين، والحروب الصليبية ضد السلاجقة والفاطميين.  

 

وسيحاول دونالد ترمب وفريق من الدعاة الإنجيليين التلفزيونيين في الجنوب الأمريكي الأبيض المتدين، تصوير التحالف الروسي الأمريكي على أنه تحالف للبروتستانتية الغربية مع الأرثوذوكسية الشرقية كما كانت دعوة أوربان الثاني للحملة الصليبية الأولى تحالفاً بين الكنيستين الكاثوليكية الغربية والأرثوذوكسية البيزنطية الشرقية ضد "المسلمين الأشرار".  إن هذا، وإن كان تهريجاً محضاً، إلا أنه تهريج فعال سياسياً، لأنه يحشد لترمب ولأصدقائه في روسيا وأوروبا سنداً شعبياً لا يستهان به. ونحن في العالم العربي لا بد وأننا نفهم قوة الدين في الحشد القتالي أكثر من غيرنا.

 

إن ترمب يرجع بالعالم، من حيث السياسية، إلى ستينيات القرن الماضي، ومن حيث اللغة، إلى تسعينيات القرن الحادي عشر الميلادي!

 

أقول إننا على أبواب أيام صعبة قادمة. كأيام احتلال العراق منذ خمس عشرة سنة أو أصعب. وإدراك أن الخطر يطال الجميع سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين، إسلاميين وعلمانيين هو الخطوة الأولى لمواجهته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.