شعار قسم مدونات

لغة الدين

People pass a street vendor selling traditional confectioneries in front of the Uqba ibn Nafi mosque, also known as the Great Mosque, during a celebration to mark the birthday anniversary of Prophet Mohammad, in Kairouan, Tunisia December 12, 2016. REUTERS/Zoubeir Souissi

في حديثنا اليومي مع أصحاب الميول الشكية والعقيدة الربوبية نلحظ بعض الظواهر شبه الثابتة في حجاجهم مع الدين. منها مطالبة الدين بخطاب واضح ولغة حاسمة جامعة مانعة في كل القضايا التي يتناولها الخطاب الديني. وإلا فإنه متهم بالتضبيب والتضليل. ومن الواضح أن النموذج المعياري الكامن للمعرفة في أذهان هؤلاء هو العلم. العلم بلغته الرياضية الواضحة، ومناهجه البسيطة. وهذا التصور هو أثر من آثار الفلسفة التجريبية التي أشاعها الإنجليز في العصر الحديث. فلا غرابة أن يكون أشهر المنظرين للإلحاد هم من الإنجليز، أمثال عالم الأحياء ريتشارد دوكنز وعالم الفيزياء ستيفن هوكنج والفيلسوف برتراند راسل.
 

والحوار مع هذه الفئة من المثقفين ينبغي أن يكون حول صحة هذا المعيار في المعرفة الدينية، من خلال الإجابة الواضحة على السؤال المباشر: هل لغة العلم هي اللغة الأنسب للخطاب الديني المفترض؟ ويمكننا أن نقطع نصف المسافة إلى الجواب لو أننا طرحنا السؤال بصيغة معدلة: هل لغة العلم هي اللغة الأنسب للخطاب الأدبي؟ وعلى الأرجح فإن الإجابة ستكون بالنفي، وهذا النفي هو نصف الشوط في الطريق إلى إجابة السؤال المركزي. لأن النفي يعد اعترافاً بأن لغة العلم ليست صالحة لكل أنواع الخطاب. ويبقى فقط أن نحرر مشكلة اللغة الدينية.
 

فالمثقف المؤمن لا يجد بناء فلسفيا ناجزاً يضع عليه لبنته الخاصة، وإنما هو مضطر دائماً لإنشاء هذا البناء بنفسه

وهذه الأخيرة لا تحتاج سوى إجابة واضحة على سؤال أولي هو: ما الذي يحدد طبيعة اللغة في أي مجال؟ هل هو شيء آخر غير وظيفتها؟! إلى أن يخبرونا عن ذلك الشيء الآخر، سنمضي في بناء الفكرة خطوة خطوة. وظيفة الفن "المجال" إذن هي التي تحدد طبيعة لغته، فوظيفة العلم الطبيعي مثلا هي اكتشاف الطبيعة وتقنينها وتوظيفها لخدمة الإنسان، وهذا يتطلب لغة دقيقة مقننة قابلة للقياس كلغة الرياضيات. أما الأدب فوظيفته تنمية العقل والنفس، بما يعنيه هذان المفهومان من تركيب وتعقيد وذاتية، بحيث لا تصلح لخطابهما لغة العلم الرياضية الباردة، بل لغة الأدب المعروفة "بأنزياحاتها" وتخييلها وذاتيتها.
 

والآن، ما وظيفة الدين يا ترى؟ هل هي شيء آخر غير وضع الإنسان في النسق الكلي لخالقه؟ بحيث يصبح واضحا له: ما هو، من أوجده، وكيف جاء، وأين سيذهب، وكيف ينبغي أن يعيش، ما طبيعة خالقه، وما طبيعة الكون الذي يعيش فيه، إلى آخر ذلك من المعرفة التي تجعل لوجوده معنى، وتجعل صلته بأطراف الوجود صحيحة ومتسقة مع فلسفة الخلق. ولو طلب من إنسان أن يتصور فكرة للدين ما خرج عن هذا الإطار. ومهما تباينت التصورات عن فكرة الدين فإنها لن تخرج عن حقيقة واحدة هي أن الدين ينبغي أن يخاطب كينونة الإنسان، بكل ما تعنيه هذه الكينونة من تعقيد واحتياجات. فما الذي يناسب الدين من أشكال اللغة يا ترى؟ هل لغة الأدب، أم لغة الفلسفة، أم لغة القانون، أم ماذا؟
 

بما أن وظائف الدين أشمل من وظائف الفن والفلسفة والأدب والقانون، فإن لغة الدين أيضا ينبغي أن تكون أشمل اللغات. بمعنى أنه ينبغي أن تتعدد مستويات الخطاب فيها بتعدد مستويات المخاطب من جهة، وتعدد مستويات القضايا التي تحملها من جهة أخرى. مع إعطاء كل موضوع من موضوعات الخطاب ما يناسبه من اللغة. فأركان الإيمان والاعتقاد -مثلا- ينبغي أن تأتي بلغة خبرية واضحة لا لبس فيها، ومثلها الشريعة "القانون الديني" لا بد أن تأتي بلغة قانونية حاسمة. أما ما عدا ذلك من الجوانب التكميلية للعقيدة والشريعة، مما يمكن أن نسميه بأدب الدين، فإن من المناسب للخطاب فيها أن يأتي بلغة الأدب المعروفة.
 

لا شك أن القضية أكثر تركيبا من هذا العرض، وذلك لأن فلسفة الدين هي أكثر الفلسفات تعقيداً. ولأن المسلمين تحديداً قد عجزوا عن بناء نظرية معرفة إسلامية تتصف بالعمق والقوة والوضوح. وأغلب المحاولات الفردية لفلسفة القضايا الدينية هي محاولات تبدأ من الصفر تقريباً أو من بعده بقليل. فالمثقف المؤمن لا يجد بناء فلسفيا ناجزاً يضع عليه لبنته الخاصة، وإنما هو مضطر دائماً لإنشاء هذا البناء بنفسه كلما أراد أن يناقش مسألة جزئية من المسائل المثارة حول الدين والألوهية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.