شعار قسم مدونات

زمن الهزائم الجميلة

blogs - revolution

تذكرت اليوم سؤالا قديما أرسلته لي إحدى الصديقات وكانت يومذاك صحفية في موقع إسلام أون لاين إبان أزمته التي دفعت العاملين فيه للاعتصام عام ٢٠١٠، قالت: هل في هذا الزمن متسع للدفاع عن أحلامنا؟ هل يوجد باب يفضي إلى انتصار دون انحناء؟ وهل حقا توجد معارك شريفة منزهة عن الأهواء الشخصية؟

 

قريب من سبع سنوات تفصل بين إجابتي الأولى عن السؤال في مقال نشر آنذاك في جريدة اليوم السابع عنوانها "جيلنا حين يحلم" وبين جلستي الآن وحولي العديد من التغريدات التي تبكي أو تلوم أو تغضب أو تواسي سقوط حلب بكل ما فيه من كارثة إنسانية، وهل ينتهي الوضع حقا أم لا زال في النص حيلةٌ تطيل الحلقات وتؤخر النهاية. ما يجعل زمن السؤال الأول، أمام ما نحن فيه الآن زمن الهزائم الجميلة.

 

كنت آنذاك أنظر للأمر ببساطة الأحلام الصغيرة، أرى الزمن ضيق في الأصل، وإنما توسعه الأحلام، ومن وسعت أحلامه زمانه وجب عليه أن يدافع عنها وأن يحفظها وإلا أصبح الزمن الذي اتسع لهذه الأحلام فارغا حوله، ولا يمكن لنا أن نحيى في زمان واسع فارغ.

 

كنت مفتونا ببلاغة الأحلام وزخرفها آنذاك، فلما طرقت بابنا الأحداث من يناير ٢٠١١، وجرفنا الموج من شواطئنا إلى عمق البحر، بدت الواقع مختلف تماما، فالغروب الذي نأنس به على الشاطئ ثم ننام آمنين في بيوتنا، غير الغروب الذي يأتي على من يصارع الموج وحده ينذر بغرقه في الظلام إن لم يكن يحسن السباحة، وكانت له طاقة وإرشاد.

 

أمامنا مسؤولية إعادة صياغة فكرنا من جديد، وفق أسس ثقافتنا الأصيلة، ومعرفة لمكاننا ومكانها في العالم، فلا اندفاع للمحفوظات مجددا حتى نُعمل فيها عقلا سويا

ذكرتني رسائل الأيام الماضية بما ألفناه من سنوات أعمارنا الأولى، فلقد شهد جيلنا حرب البوسنة وكوسوفا وأفغانستان والعراق، ولقد شهد جيلنا على السوشيال ميديا أحداث عديدة لم تخرج توابعها عما نراه اليوم حتى غدا كل شيء تكرار ممل لما تم نعيه من قبل.

 

ولقد جربنا هذه الأمور لعقود ولم تجد نفعا، جربنا محفوظات الكوارث، تلك التي تضج بها المنابر، أو تظهر بثياب عصرية منمقة عبر وسائل التواصل دون أثر هام في الحياة، و "من جرب المجرب حلت به الندامة" كما قال حافظ شيرازي.

 

لعل أهم ما جنيناه من سنوات الهزائم هذه، أننا خسرنا في لعبة قمار جُلَّ ما جنيناه من أفكار لم نختبرها من قبل، سواء في رؤيتنا لأنفسنا أو للعالم حتى بتّ كلما طالعت كتابا صدر قبل ٢٠١١ أنظر إليه باعتباره خارج حدود الزمن، خصوصا تلك التي امتلأت بها الكتبة الإسلامية خاصة في ثلاثة أرباع القرن الأخير، إلا النذر اليسير.

 

إن مجمل الهزائم الأخيرة فيما بعد الربيع العربي، يختصرها في رأيي أمور ثلاث:
الأول، عدم الفهم الغريب للعالم من حولنا، ولتاريخ الإنسانية كلها، ولتاريخ الإسلام نفسه، ومرد هذا العمى برأيي هو للسجن المعرفي الذي حبس فيه العقل المسلم المعاصر، فصاغ العالم كله في بضع جمل يقيس عليها كل ما يرد إليه، ويكتب العالم في عقله بهذه الصيغة وحدها، ويستحضرها في كل كارثة أو عمل.

 

الثاني، الغربة الوافرة بين أبناء المعارك الواحدة، الغربة عقلا ونفسا، والله قد نفى العقل عمن تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، حين وصف القرآن بنو إسرائيل: "تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتى ذلكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ".

 

الثالث، هي عدم إدراكنا أن هناك فرقا كبيرا بين مثالية القيم، وواقعية السياسة والعسكرية والدنيا عموما.. وحين نخلط الأمور ونفكر عسكريا وسياسيا وحركيا بعاطفية، ونغفل التفكير في المآلات فإننا نخسر لا خسارة آنية، بل خسارات ممتدة في الزمن، والذي يُحزن أن مثالية القيم هي مما يسهل تزينها بالحروف فتخرج دوما جميلة محببة.

 

ولأن السؤال الغالب الآن هو ماذا نفعل، وهو سؤال لا يجيب عنه إلا كل شخص بما يدرك من أحواله، إلا أنه قد يكون من أوائل مسؤولياتنا الحالية، هي إعادة تنقية تجربة السنوات الأخيرة، من تدوينها العاطفي، لنراها بصدق لا يجامل فكرةً لأنها نقية، ولا حركيًا لأنه مخلص، ولا حدثا لأن أصدقاءنا من قاموا به، ولا يجحف بحدث آخر لأن أعداءنا "آنذاك" من فعلوه.

 

ثم إن أمامنا مسؤولية أخرى، هي إعادة صياغة فكرنا من جديد، وفق أسس ثقافتنا الأصيلة، ومعرفة لمكاننا ومكانها في العالم، فلا اندفاع للمحفوظات مجددا حتى نُعمل فيها عقلا سويا، ونفسا متصالحة مع الكون وخالقه، وإنما تكون الفكرة إنسانية عامة، حين لا تعادي العالم، وحين يتجاوز نفعها إلى العالم كله، وحين يفهمها العالم بيسر، وكذا كانت رسالة الإسلام الأولى حين جاء، وكان نموذجه الذي استوعب العالم بسهولة آنذاك، حتى حين عاداه من تأثرت مصالحهم به آنذاك، كان أمانه في إيمان عوام الناس به.

 

ورد في صحيح مسلم وغيره عن موسى بن علي قال: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس فقال له عمرو أبصر ما تقول؟، قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالًا أربعا:

إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك.

 

ولعل في هذا الأثر مجمل الصفات التي إن توافرت في أمة، امتد عمرانها في المستقبل كما هو في التاريخ، وما أبعدها عنا الآن. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.