شعار قسم مدونات

الوعي والوجود (2)

epaselect epa05441577 The pavilion of Wolpa is shrouded in heavy fog at Gyeongpo Lake in Gangneung on South Korea's east coast, 26 July 2016, creating an India-ink landscape. The name of Wolpa, which means the moon and waves, originated from scenery at the lake being shaken by waves in the moonlight. EPA/YONHAP SOUTH KOREA OUT
هُناك مقال سابق بعنوان "الوعي والوجود"، أُوصي بقراءته. وعلى الرغم من وجود الرقم (2) في العنوان، إلا أن هذا المقال ليس إكمالاً للأول، والذي لم يكن عنوانه يحمل الرقم (1).

ومع ذلك يُمكن اعتبار هذا المقال مكملاً للأول، ليس بمعنى الاستمرار، وإنما بمعنى التناقُض. في "الوعي والوجود" تم تناول الوعي كمرادف للوجود، حيث يتحدد وعي الإنسان بوجوده. وكانت كلمة "وعي" في ذلك السياق تحمل معنى إدراك الوجود الذاتي أكثر من أي شيء آخر. وفي هذا المقال، تشير كلمة وعي إلى الشعور بالوجود، وهُنا تكون الذات في مواجهة الوجود كشيء خارجي، ويكون الوعي كغريب في الوجود، مثل إنسان في صحراء موحشة شاسعة، بلا نهاية.

نحنُ هُنا نعيش ما نعيشه لأننا لا يُمكن أن نكون إلا هُنا، فنحنُ مجرد خيوط في نسيج، لا يُمكنها أن تتحرك خارج هذا النسيج بأكثر مما يتزحزح أي خيط في بساط.. لا يُمكننا الإفلات من الزمان والتاريخ.

غنيٌ عن القول أن هذا التناقض ليس نسخاً أو إلغاء، بل إن البعض قد لا يراه تناقُضاً من الأساس. فدائماً نحن بحاجة إلى النظر الى الأشياء من زوايا مختلفة ومتناقضة أحياناً من أجل اكتمال الصورة. وهذا ما أقوم به هُنا. فنحنُ لا يُمكننا إدراك وجودنا إلا انطلاقاً من الذات، والتي لا يُمكنها أن توجد إلا كخيط رفيع في نسيج الزمان والمكان والتاريخ، خيط محدود له بداية ونهاية، وهو لا يُوجد فيه كشيء منفصل، فنحنُ منسوجون ومسجونون في الزمكان والتاريخ مثل خيوط لا يُمكنها الإفلات من هذا النسيج الكوني الهائل، والذي يجعلنا نشعر بالضآلة اللامتناهية عندما نحاول أن نتصوّره.

وبعيداً عن الكون الفسيح، والذي قد تجعلنا مأساتنا الأرضية ننساه وكأنه غير موجود، أو كأننا كل شيء، كأننا نحنُ الوجود ذاته. فإننا هُنا في هذه الرقعة المتناهية الصغر من النسيج الكوني، في هذه الأرض التي تُسمى بالوطن العربي على سبيل المثال، نواجه الوجود وكأننا قادمون من خارج هذا النسيج، وذلك بسبب امتلاكنا لهذا الشيء الغريب الذي اسمه "الوعي". أعرف بالطبع أن البعض قد لا يزال يفتقر إلى الشعور بالذات، والشعور بالوعي بالتالي، يُمكننا اعتبار هؤلاء في الطرف النقيض للوعي في ثنائية الوعي-الوجود، أي أنهم مجرد وجود ولذلك لا يعيشون التناقُض الرهيب بين وجودهم ووعيهم.

هذا التناقُض، هو الشيء الذي يجعلنا نشعر بالألم والرعب والتفاهة وبمختلف أنواع المشاعر الكريهة، والتي نحاول إنكارها أو نسيانها كما نحاول أيضاً تغييرها لكي تستمر الحياة. في هذه الحالة يتواجه الوعي مع الوجود كأضداد ونقائض. صحيحٌ نحنُ هُنا نعيش ما نعيشه لأننا لا يُمكن أن نكون إلا هُنا، فنحنُ مجرد خيوط في نسيج، لا يُمكنها أن تتحرك خارج هذا النسيج بأكثر مما يتزحزح أي خيط في بساط.. لا يُمكننا الإفلات من الزمان والتاريخ، وإن كُنا نملك بعض الحرية في تغيير موقعنا في النسيج، خيط رفيع في مكان آخر. وهذا هو الوعي بالوجود كما تكلمت عنه في المقال الأول.

ولكن، ويا للتناقُض العجيب، عندما نواجه الوُجود كشيء خارجي فظيع، نميل لأن نُنكر موقعنا كخيوط رفيعة في نسيج هذا الوجود، نشعر بالانفصال والرفض والاغتراب، نقول إننا لا نتبع لهذا العالم مثلما قال بعض المحاصرين في مدينة "حلب" عندما شعروا بأن هذا الكوكب عبارة عن مكان غريب لا يستحق حتى أن يشعروا بالأسى على فراقه الوشيك. كيف يُمكن إقناع مثل هذا الوعي بتقبُّل "حقيقة العالم" وحقيقة كل الوجود الأبكم إزاء مأساته. ما معنى أن يعرف الوعي هذه "الحقيقة"؟ إنه يرفضها، وكأنه -أي الوعي- لا ينتمي لهذا الوجود، وكأن الوجود بحد ذاته واقعة غريبة، وليس شيئاً في منتهى البداهة والوضوح.

كنوع من الهروب من بشاعة "الحقيقة"، سنحاول أن نخلق أكاذيب أخرى، نسميها حقائقنا الجديدة، في النهاية نحنُ بحاجة إلى الاستمرار في الحياة بأقل الخسائر.

إن الإدراك لا يُمكنه أن يرفض أي شيء واقعي، فالعقل الإنساني يمتلك القدرة على تحمُّل أكثر الحقائق فظاعة، كمعرفة. ولكن هذه الحقائق ذاتها عندما تُعاش كشعور، كواقع، كوجود، فإن الوعي الإنساني يُنكرها أشد الإنكار، لأن الوعي هُنا ليس عقلاً بارداً، ولكنه شعور.. ليس تفكيراً أو تأمُّلاً بل هو شعور كالألم والغثيان على سبيل المثال. هُنا تبدو عبارة ديكارت "أفكِّر إذن أنا موجود" في غاية البرود، بينما تكون عبارة مثل "أنا أتألم" أكثر حارة وإثباتاً وحقيقة من أي شيء يُمكن أن يدركه العقل، مع أنها قد تنطوي على رفض رهيب وإنكار للوجود.

إن الذي يعاني لا يقول "من أكون"، ولكنه قد يقول "لماذا أكون"؟ فهو لا يحتاج إلى عقله لكي يشعر بوجوده، الوجود هُنا لا يكون معرفة، بل تحقُق عيني، لا يهُم إن كان حلماً، أو إن كُنا في برنامج ذكاء اصطناعي عبثي عظيم، أو في اختبار حكمة كونية ما، ففي النهاية الشعور هو هو، لا يُمكنك أن تأتي لإنسان يعاني أشد المعاناة لتقول له هذا الشعور قد يكون غير حقيقي، من يعرف! أو أن هُناك هدفاً ما وراء كل هذا.

مع كل هذا، وكنوع من الهروب من بشاعة "الحقيقة"، سنحاول أن نخلق أكاذيب أخرى، نسميها حقائقنا الجديدة، في النهاية نحنُ بحاجة إلى الاستمرار في الحياة بأقل الخسائر، هكذا نشيح بوجوهنا عن كل شيء لا يعجبنا في هذا العالم، وننظُر إلى "النصف المليء الكوب" لدرجة أننا قد نعتبر أن مصائبنا هي الخير بعينه، وقد يصبح ما هو عبثي ومقرف في هذه الحياة، عبارة شيء في منتهى الحكمة والمعنى، وربما نفتخر به أيضاً كجزء من تاريخنا العظيم، نحنُ البشر الذين نتعلم من المآسي والعبث، ونسمي ذلك دروساً.

فهل التاريخ عبارة عن معمل أو مختبر، يكون فيه الجميع هم التجربة والمُلاحظ في الوقت ذاته! ذلك هو الهروب الذي يمارسه الوعي الإنساني وظل يمارسه على مر التاريخ. وذلك منذُ أن بدأ يعزو الكوارث الطبيعية الى غضب الآلهة، والقوى الغيبية.

إن الانفتاح الهائل للعالم على بعضه البعض جعلنا أكثر مواجهة للوجود من أسلافنا الأوائل، فنحنُ اليوم بفضل التكنولوجيا، أصبحنا نشعر بأننا نعيش على كوكب الأرض بحق، أي أصبحت دائرة وجودنا تشمل كل الأرض، أو على الأقل الجزء الذي يغطيه الإعلام من هذا الكوكب.

أسلافنا الأوائل وحتى وقت قريب لم يكونوا يُوجدون بهذه الطريقة، كما أن ذاكرتهم أيضاً لم تكن بهذا الاتساع، أعني أن وجودهم كان محصوراً بحدود عالمهم الجغرافي، وزمانهم الذي كان بطيئاً وبالتالي أقل كثافة من زماننا الحالي الصاخب الكثيف، فنحنُ الآن نتشابك ونمتد في رقعة من نسيج الزمكان والتاريخ أوسع بكثير من تلك التي كان عليها أسلافنا. ووعينا كذلك قد اتسع بأكثر مما يتسع وجودنا الفعلي بحيث أصبح التاريخ السابق أيضاً، وبكل ما فيه، يبدو وكأنه جزءٌ من وجودنا.

ما نزال بحكم الوعي نفسه، وبحكم الأمل، وبحكم طبيعتنا وتكويننا النفسي نعتقد أو على الأقل نأمل بوجود هذا الوعي الكوني، رغم كل شيء.

كل ذلك قد جعل مأساتنا الوجودية أعظم بكثير من مآسي آباءنا السابقين، الذين كانوا يعيشون في عالم أكثر صمتاً، كانوا يعانون ربما بأكثر مما نعاني اليوم، ولكن في صمت رهيب كان يعم الكوكب، أكبر من الصمت واللامبالاة التي يظهرها العالم اليوم تجاه مختلف أنواع المآسي التي يمر بها البشر الآخرين.

فقد مرت فترة من تاريخهم، أعني أسلافنا، لم يكن هُناك سوى الانتخاب الطبيعي الأعمى لمعالجة أي شيء. فالأمراض مثلاً والأوبئة لم يكن ينجو منها إلا من كان تكوينهم الجيني يُمكِّنهم من الصمود والبقاء، في ظل غياب شيء اسمه التطعيم أو وزارة الصحة، فضلاً عن المنظمات العالمية، وقل نفس الشيء عن الكوارث الطبيعية، المجاعات، والحروب.

نحن أحفاد السلالات الناجية أو المنتصرة كما يحلو للبعض، قد مررنا بشكل ما بكل ذلك، ويعتقد البعض أن تكويننا النفسي يحمل الكثير من تلك الأزمنة السحيقة. وما زلنا نواجه ذلك، بوعينا، والذي ما يزال، رغم كل هذه السنين، غريباً في هذا الوجود، مثل مسافر وحيد في صحراء شاسعة بلا نهاية.

نعم، لقد قام هذا الوعي في معركته الوجودية بإبداع معانٍ كثيرة، مثل الصبر، هذا المفهوم الإنساني العظيم والمثير للدهشة، كما أبدع مفاهيم أخرى كثيرة وعظيمة، مثل الكذب، الأمل، الخير والشر، الجمال، الحق، الحرية العدالة، الإيمان… إلى ما لا حصر له من المفاهيم التي صنعها الوعي الإنساني وإن شئنا الدقة قُلنا الوعي الكوني.

فنحنُ ما نزال بحكم الوعي نفسه، وبحكم الأمل، وبحكم طبيعتنا وتكويننا النفسي نعتقد أو على الأقل نأمل بوجود هذا الوعي الكوني، رغم -وأيضاً بسبب- كل شيء، فهذا الوعي الغريب على الوجود التاريخي مثل ضيف قد هبط من السماء، ما يزال يفتح الأسئلة والاستفهامات حول طبيعتنا النهائية. فنحنُ ما دمنا نُنكر وجودنا، ونشعر بالاغتراب، فإن السؤال عن طبيعة الوعي لن يتوقف.

فهل "نحنُ نبت الأرض وأبناء السماء"؟ كما يقول "علي عزت" عن الحرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.