شعار قسم مدونات

ست سنوات عجاف

blogs- حلب
مرت ست سنوات على ثورات الربيع العربي أو أيًا كانت التسمية. فمثل أمس أضرم الشاب البوعزيزي النار في جسده فاشتعلت النيران في عالمنا العربي كله، خيرا كان ذاك أم شرا، لا أستطيع الفكاك من تأثير ما جرى فيها وما تبعه على الصعيد الشخصي، ماذا يمكن أن تصنع فينا تلك السنوات العجاف؟ أصبحت أكره الأمل، أكره استقراره في نفسي، أكره من يتحدث به، أكره كل تحليل يقود إليه.
 

أشعر أني كبرت أكثر مما يجب، أحاول صرف التفكير عن كل شيء يقود إلى مآلات ما نحن عليه، تكسّرت الكثير من أحلامي عاما بعد عام، وفي كل مرة أبعث الروح في نفسي.. أعود لأكسر من جديد، الهشاشة تزداد في كل يوم أكثر. عندما أمرّ بغرفة الأخبار أختنق، أشعر أن هذا المكان متعفن برائحة الدم والتسيس والألم.. أمر بها فيجتاحني الغضب، أكتم صرخة داخلي وأطأطئ رأسي، أبدأ بالغناء بصوت منخفض وأنا أتأمل حذائي، أسرع في مشيتي محاولة صرف العقل عن التفكير.
 

هذه السنوات الست، وفي كل مكان وقعت فيه كارثة أو مأساة من مآسي عروبتنا، كنا نعرف أحدهم، كان أحدهم هذا إما مخفيًا، أو مُعذّبًا في السجون، أو مقتولاً في مجزرة، أو غائِبًا بعد مذبحة..

توقفت عن قراءة كل ما من شأنه دفعي نحو الأسئلة، قطعت صلتي بجلّ الكتب، توقفت عن متابعة بحث الدكتوراه، أغلقت شاشة التلفاز عن الأخبار، فقدت قدرتي على التواصل مع الآخرين حتى الحد الأدنى، غمست نفسي فجأة في الروايات التي ما كانت تحتل أي حيّز في عالمي، أقرأ وأشاهد القصص، أقرأ وأتابع الحكايا، في كل مرة أعيش دور إنس أو جان أو حتى كلب أخرق، أقفز من عالمي إلى السطور المنسية، هناك حيث يمكنني الهرب دون خوف أو خطيئة.
 

مع تتابع الحصار على حلب، كنت أعرف يقينا أن المشهد الأخير قادم، نتيجة طبيعة محتومة، لكنها أيضًا صفعة جديدة، انكسار آخر، هشاشة أكبر، وغرق في بؤس لا ينتهي.. اضطررت مجبرة لتحميل تطبيق خاص بالأخبار على هاتفي، أعرف أشخاصا هناك، أعرفهم بالاسم، أعرفهم كما أعرف نفسي، كنت أحادثهم بكل ما هو تافه بعيدا عن الحرب، لوهلة شعرت أن آخر ما بقي في روحي سيفنى هناك، تصلني التحديثات على الهاتف، كنت كمن ينزف ببطء مع اختناق الحصار، صوت تنبيه الخبر العاجل يحاكي وقع نزف قطرة الدم من جسدي على بركة قانية، إعدامات بالجملة، قنص ميداني، قتل، أشلاء، دم، صرخات، قنابل عنقودية، جثث لا تحصى.
 

تقول صديقة "يكفي أن تعرف شخصا واحدا في حلب الآن، حتى تكون المأساة مأساتك الخاصة، هذا القتل، هذه المواجهة السخيفة مع الموت لا تقع خارجنا، ليست سياسة ولا تعاطف أجوف مع مشاهد المأساة المتكررة، بل شأن خاص تماما، لا يترك سوى شعور حقير بالعجز". في هذه السنوات الست، وفي كل مكان وقعت فيها كارثة أو مأساة من مآسي عروبتنا، كنا نعرف أحدهم، كان أحدهم هذا إما مخفيًا خلف الجدران، أو مُعذّبًا في السجون، أو مقتولاً في مجزرة، أو غائِبًا بعد مذبحة، مُحاصرًا تحت النار، مُطاردًا بين الحدود أو لاجئًا غريب، قد يكون أحدهم مجرد خيال إنسان كسير.
 

لم نكن في تلك الديار، لم أكن في العراق، لكن صديقتي.. إحدى صديقات الطفولة، كان والدها هناك، لاحقته ميليشيا طائفية بعربات مدججة بالسلاح، أمسكوه، عذّبوه ثم أفلتوه ليركض أمامهم حتى يقتلوه كأي جرو صغير، قتلوه تماما كما فعل رامزي بولتون بريكون ستارك، في هذه السنوات العجاف كانت كل القصص المتخيلة عن بشاعة العالم واقعا حيّا بيننا.
 

لم أكن في اليمن ولا في تونس ولا في ليبيا، لم أكن في القدس ولا في غزة، لكن هذا الإنترنت أقحمني رغمًا عني لأكون جزءا من قصص لا يد لي فيها.

لم أكن في مصر لكني عشت أسوأ ساعات عمري إبان أحداث فضّ رابعة تلك المذبحة المشهودة، أهاتف أصدقائي على تتابع، أحادثهم فردا فردا، ماذا حلّ بكم؟ أين أنتم؟ اختبئوا في بيوتكم.. غادروا المكان، حصّنوا آخر أمل بعيدا عن النيران.. بعضهم لم يجبني حتى اللحظة، لم يجيبوني حتى الآن.
 

كسرني الحب، كسرتني كثير من قصص الحب المعلقة، عن الأحبة الذين حالت النيران والسجون وقوارب اللجوء بينهم، عن صديقتي المتيّمة، تلك التي كانت على وعد بالزواج من شخص نبيل، خطفته الغربان السود بلا تهمة، حكموا عليه بالإعدام ثم خُففّ الحكم إلى المؤبد، يحادثها في كل دهر مرة.. "أشتاق للوحة المفاتيح، أشتاق لصوت الطابعة، أشتاق لأمي، أشتاق للضياع معك في القاهرة"، ومازالت تلك المسكينة على أمل، الأمل في عالمنا مرض.. كيف نشفى من هذا الأمل؟

لم أكن في اليمن ولا في تونس ولا في ليبيا، لم أكن في القدس ولا في غزة، لكن هذا الإنترنت "اللعين" خلق لي معارف على امتداد الكرة الأرضية، أقحمني رغمًا عني لأكون جزءا من قصص لا يد لي فيها، علّقني على الحلم فجأة ثم أعدمني بمنتصف الطريق، هذا الإنترنت خلق لي أوجاعا لم أدري كنهها إلا هذه السنوات الست.
 

في كل يوم أمارس ما من شأنه دفعي نحو النوم، أتناول الحليب الدافئ، أغمر نفسي بحمام ساخن، أقرأ حتى تثقل عيناي، تتسلل أصابعي نحو الأعشاب المهدئة، أحاول جاهدة لملمة قطعي المنثورة، أجمعها عند الوسادة، أعود لِعدّ الخراف مع النجوم المتساقطة، أخيرًا.. ها أنا استسلم للنوم، تمرّ ساعة ساعتين ثلاثة كحد أقصى، ثم.. أنا في تمام الرابعة فجرا استيقظ من جديد، جسد مُنهك جبين محموم وعقل مشغول بكل ما لا يحتمل، عقل يعيد تلاوة القصص الموجعة واحدة تلو والأخرى.
 

كم أرجو لو أن ولدت في زمن آخر، بهوية مختلفة، بلغة لا تصلني بهذا العالم، مكان يمكنني فيه الحديث بصخب وانفعال عن أي شيء دون قلق أو حسبان..

لي على هذا الحال عام إلا قليل، أكتب عن الأيام التي فاجأتني بما ينسيني كل هذا الحزن أجدها أقل من أصابع اليد الواحدة، لست وحدي، جلّ الذين أعرفهم باتوا رغم الأمل منكسرين، جدة أمي لم تشهد صبرا وشاتيلا، لكنها ماتت مفطورة القلب إثر ما كانت تشاهده عبر التلفاز، ومثلها كثر.. من قال إن الحزن لا يقتلنا؟ الأمل هو القاتل الأكبر.
 

يقولون أن من يقرأ التاريخ يدرك أن ما يحدث من سنن الأرض، يقولون أن الفجر يأتي بعد الظلام، وأن كل ما يحدث جزء من سياق التغيير، أدرك كل هذا، أدركه جيدا، أدرك أن ما حدث في ديارنا لم يصل بعد لما آلت إليه ثورات العالم، لم ننزف دما يكفي، لم نقدم تضحيات تليق، أدرك أن أوجاعنا لا شيء مما تكبّده العالم في رحلة التغيير، أدرك أن الفوضى جزء من الخلاص وأن الأمل معبّد بالألم، لكن من قال أن القادم أفضل على أي مدى قريب؟
 

كم أرجو لو أن ولدت في زمن آخر، بهوية مختلفة، بلغة لا تصلني بهذا العالم، مكان يمكنني فيه الحديث بصخب وانفعال عن أي شيء دون قلق أو حسبان.. ما أعظم أن تشارك أفراحك دون خجل، ما أعظم أن تحظى بممارسة تفاهتك علانية أمام الآخرين، ما أعظم أن لا تستنكر على نفسك ممارسة طبيعية أمام هذا الكم المخيف من الألم، وماذا لو حدث هذا؟ على الأرجح كانت لتشغلني قضايا أهم، أو لنقل لا أريد أن تشغلني أي قضية! لماذا عليّ أصلًا أن أكون قلقًا على ما أدّعي فيها نَفَس المحارب؟
 

نحن مبتلون بهذه المنطقة من العالم، حيث يصبح الحديث عن الأضرار البيئية رفاهية أخلاقية، وحيث يصبح تذوق الشعر ترفا ثقافي، وحيث يصبح الاستمتاع بالرقص ابتذالا تام، وحيث يصبح الإعجاب ببطريق صغير محض سخف مطلق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.