شعار قسم مدونات

دروب الحرية ما بعدَ حلب

A member of forces loyal to Syria's President Bashar al-Assad stands with a civilian on the rubble of the Carlton Hotel, in the government controlled area of Aleppo, Syria December 17, 2016. REUTERS/Omar Sanadiki TPX IMAGES OF THE DAY

ما دُمنا نُصدّق قولَ خالق البَشَر "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ"، فسنتيقّن أنّ حياةً خاليةً من الآلام أمرٌ لن يتحقّق. تتفاوتُ الآلام قدْرا ونوعا، ويتفاوتُ البشرُ في فلسفتِها والاستجابة لها وتغيّرهم بسببِها، غيرَ أنّنا نشتركُ في أنّ آلامَنا جزءٌ منّا، مكوّن من هويتِنا، وشَطرٌ منّا لن نكونَ ما نحنُ عليه لو انتُزِع منّا.

 

غيرَ أنّ أهمّ ما تتفاوتُ فيه الآلامُ ليسَ مقدارَها ولا نوعَها، بل معناها. الألم هو الألم، وسواء أكان ألما جسديّا أم نفسيّا، فرديّا أم جماعيّا، يعنينا مُباشَرة أم يعنينا بصفتِنا جزءا من دائرة أوسع، فهو يظلُّ ألَما، يظلُّ شعورا قاسيا ومُجهِدا، وسببا للتّساؤلِ الدائم عن الحكمة والمعنى والمغزى والمآل. لكنّ معنى الألم هو ما يُشكّل تأثُّرَنا به واستجابتَنا له. ربما يكونُ ألم مُصابٍ بالسّرطان في مراحله الأخيرة أقلّ مقدارا من ألمِ أمّ أثناء إنجابِ طفلِها. لكنّ الألم الأوّل يبدو -بالمعايير النّفعيّة على الأقلّ- ألماً بلا أفق وبلا جدوى، فهو ألمٌ على طريق الفناء المحتّم، ولا تترتّب عليه أيّ منافع متوقّعة؛ لكنّ ألم الولادة يبدو ثمنا لا بدّ من دفعِه من أجل نتيجة تستحقّ.

 

لذلك لن يبدوَ مستغرَبا أنّ الأديان والفلسفات والآداب انشغلت بالألم، سواء أكان ألمَ الوجود برمّته، أو الآلام المتنوّعة التي يشتملُ عليها ألم الوجود الكبير. تبدو هذهِ كلُّها بوجهٍ ما محاولاتٍ لجعلِ ألمِ الوجود محتمَلا أو وضعِه ضمنَ سرديّة ما أو سياق أو معنى أكبر وتصوّرٍ أشمَل.

 

حلب.. عن معنى ما للألم:

اعترضَ كثيرون على تسمية "الرّبيع العربي" باعتبار أنّها حملت أملا ساذَجا بتغيير جذري من خلال مظاهرات سلميّة تتعرّض لقمع محدود، ومع الوقت يُصبِحُ هذا الاعتراض أكثر وَجاهة

كلُّ بحثٍ عن عزاء ما إثر مجزرة مروّعة سيجدُ نفسُه متورّطا في مثاليّات مخجِلة. الحكمة الإنسانيّة البسيطة تخبرُنا أنْ لا أحدَ قادرٌ على إدراك الألم مثلَ صاحبه، ولا أتصوّر أنّ في الوجودِ كلِّه ما يمنحُ العزاء لأمّ فقدت طفلتَها أو زوجٍ فقد حبيبتَه. حين ننتقلُ إلى الدّار الآخرة فالموازيينُ ستكون غيرَ الموازين، وسيُلقّى الصّابرون أجرَهم بغير حساب، لكن في هذا الوجود الدنيويّ الناقص، تبدو كلُّ محاولة للعزاء بحاجة إلى عزاء.

 

لكنْ من باب الوفاء للآلام على الأقلّ، ومن باب احترام خيارات من أقدموا عليها طائعين مختارين مُدرِكين لمآلاتِها، يُصبحُ البحث عن معنى للألم واجباً أخلاقيّا. يصحّ هذا حتّى ولو كان الفقدُ عشوائيّا واعتباطيّا، مثل موت في حادث سير أو إثر انفجار جرّة غاز أو في كارثة طبيعيّة، فكيف لا يصحّ إن كان بخصوص ثورة تاريخيّة لم يتوقّع أحدٌ أن تقوم بعدَ إجرام النّظام عبرَ تاريخه، والسطوة الأسطورية لأجهزة أمنِه؟ وكيف لا يصحّ هذا بشأن ثورة لم يتوقّع أحدٌ أن تستمرّ بعد قمع النظام الشديد، ومجازره الرّهيبة، واستخدام السلاح الكيماوي، ودخول حلفائه ساحة المعركة من الدول الكبرى إلى قطعان الشّيعة المدجّجين بإيديولوجيا قتل تصلُ إلى مستوى الغريزة الحيوانيّة في رسوخِها وغيابِ أيّ عقلٍ يردعُها؟

 

قد يبدو الحديثُ عن معنى للألم ضرباً من المزايدة على أب فقدَ أطفالَه.. ربما .. لكنّه ينطوي كذلك على اعترافٍ لا بدّ منه لهؤلاء المكلومين بأنّهم ليسوا أقلّ من غيرهم، وبأنّ هذه الأمّة ليست أقلّ من غيرِها في استعدادِها، طوعا واختيارا أو تصبّرا واضطرارا، لتحمّل قدرٍ هائلٍ من الألم لتكتملَ إنسانيّتُها التي انتقصتها نُظُم الظّلم والتبعيّة أيّما انتقاص.

 

في هذا الشّان بالذّات، يجبُ أن نتوقّف عند أمر جلَل. ألا وهو هذا الانتقاص الذّاتيّ المُريع من قدرتِنا كأمّة على أن نتحمّل آلام العبور إلى شكلٍ أكثر لياقة بنا كبشَر. لا نملّ من ترداد قصص صمود الأمم الأخرى أمام غُزاتِها وطُغاتِها، ولا نملّ كذلك من ترداد قصص صمودِنا في وجه طغاتِنا وغزاتِنا، لكنّنا في لحظات الألم ننسى ذلك. ننسى أنّنا لا نمتلك سننا تاريخيّة مفصّلة على مقاسِنا وتجري علينا وحدَنا دونَ سائر الأمم، وننسى أنّ قوانين الفيزياء التي تنطبق على الوجود تنطبقُ علينا كذلك.

 

هذا الحديثُ عن كلفة الدّم العالية، سواء أتى من مثقّفين إنسانويّين، أو سلفيّين يعبدون الأمر الواقع، أو شامتين محبّين للطّغاة يتنكّرون في هيئة مُشفِقين، هذا كلّه ينطوي على انتقاصٍ مريعٍ من إنسانيّتِنا كأمّة، ومن أهليّتِنا ل "خير أمّة أُخرِجَت للنّاس"، ومن استحقاقِنا لمآلات إراداتِنا ومصائرِ خياراتِنا. هذا انتقاصٌ منّا لا يمحو الألم، بل يُضيفُ إليه العار.

 

ولكن..

هل كان يجبُ أن يحدثَ كلُّ ما حدث؟ لا بالتأكيد. هل كانت كلُّ هذه الآلام حتميّة؟ لا قطعا. ولذا، فلوم الأقدار والتّساؤل عن الله انحرافُ مُخزٍ عن الأسئلة الصّحيحة. لا شيءَ أكثرُ تكديرا من حالِ أمّة يتكالبُ عليها الأعداء فتهربُ من الدّفاع عن نفسِها إلى الدّفاع عن الله، ولا شيءَ يملؤني بالغيظ في ظروفٍ كهذه أكثرَ ممّن يهبّ بحماس وبلاغة ليُدافعَ عن الله، مدبّجا في ذلك المقالات والحجاجات. وما حاجة الله إلى دفاعِك؟

 

ما حدث لم يكن كارثة طبيعيّة، بل صنعتْه إرادات بَشَر، وإصابات بشر، وأخطاءُ بشَر. كان هناك ما لا يُمكن تجنُّبُه، وكان ثمّة ما يُمكنُ تجنّبُه. هذا لا يعني أنّ الرجوعَ بالتاريخ ممكن، لكنّه يعني أنّ التاريخَ مفتوحٌ للمحاولة. من غياب التّمثيل السياسيّ الناجع، إلى غيابِ الخطابِ الموحِّدِ الجامع، إلى ضعف الحضور الإعلامي وأدواتِه، إلى الفرقة والتشرذم، إلى التّهاون في مواجهة سرطان السّلفيّة الجهاديّة، إلى إدارة العلاقة مع الحلفاء، إلى تكتيكات وأساليب المواجهة على الأرض، وغير ذلك.. في ذلك كلّه كان بالإمكان أفضلُ ممّا كان، وربّما كان ذلك ليُنتِج مصائرَ مُختلِفة، وربّما لا، لكنْ ما التّاريخُ إن لم يكن اجتهادا دؤوبا أملا في تغيير المسارات إلى ما نُريد؟

 

لا ينطبقُ هذا على سوريّا فقط، بل على كلّ بلد قامت فيه انتفاضاتُ الحريّة، وعلى ثوراتِنا ضدّ الاحتلالات الأجنبيّة، وعلى مقاومتِنا المستمرّة للاحتلال الصّهيوني. يبدو الأمر بدهيّا للغاية، لكن علينا أن نتذكّر أنّنا لسنا محاصرين في ثنائيّة الاستسلام لألم قدريّ لا دور لإرادات البشرِ في درئه أو درء بعضِه، أو احتقارِ ذواتِنا والشكّ في أهليتِنا بحريّتِنا وإنسانيّتنا حين تدهمُنا الآلام.

 

ما بعدَ حلب

السؤال لم يعد ديموقراطيّة في مواجهة استبداد، أو إسلاميّة في مواجهة علمانيّة، بل الأمر يتطوّر باطراد إلى تهديد كيانيّ للأمّة كقوميّة ووجود سياسيّ وموقع جغرافيّ

اعترضَ كثيرون على تسمية "الرّبيع العربي" باعتبار أنّها حملت أملا ساذَجا بتغيير جذري من خلال مظاهرات سلميّة تتعرّض لقمع محدود، ومع الوقت يُصبِحُ هذا الاعتراض أكثر وَجاهة. نعم لقد انتهى الرّبيع العربيّ بمعنى الأملِ البريء بسقوط طغاة بالمظاهرات والتغيير بلا كلفة إنسانيّة عالية، والتعويلِ على رفض الجيش لقمع الجماهير، والمرحلةُ القادِمة ستشهدُ عنفا متزايِدا، ولا شكّ أن مرور القمع الرّهيب للثورة السوريّة من دون تدخّل دولي رادع، خصوصا في ضوء الانسحاب الأمريكي من المنطقة، سيُشجّع النظم على مزيدٍ من القمع. لكنّ هناك عاملَين حاسمَين يعملان ضدّ الأنظمة ولصالح الشّعوب:

الأول: أنّ هذا القمعَ الذي تُمارسُه الأنظمة ليس مقرونا بمشروعٍ من أيّ نوع يمكن أن يُتَّخّذَ تبريرا له. حين كانت الأنظمة العربيّة تقمعُنا في السّابق، كان لدى بعضِها مشروع تحديثيّ ما، أو مشروع عدالة اجتماعيّة ما، أو مشروع لمقاومة إسرائيل مهما كانت درجة جدّيتِه. هذا كلّه تلاشى اليوم، فالأنظمة تقمعُ بكلتا يديها بدلاً من أن تقمعَ بيد وتُطعم بما في اليد الأخرى. الدولة العربيّة اليوم، إذا لم تكن قد تفكّكت فعليّا كما في سوريا والعراق وربّما اليمن وليبيا، عاجزة عن الدخول في أيّ مسارٍ ذي معنى. هناك تردِّ عامّ في الحريات السياسيّة والاقتصاد والصّحة والتعليم، وحتّى الدّول النفطيّة تمرّ بأزمات تهدّد أسسَ الشرعيّة المؤقّتة التي تُديم معادلة الحكم الرّاهنة فيها، ولا يبدو أيّ نظام عربيّ مهتمّا بمواجهة إسرائيل حتى على مستوى الشِعارات.

 

الثّاني: أنّ السؤال لم يعد ديموقراطيّة في مواجهة استبداد، أو إسلاميّة في مواجهة علمانيّة، بل الأمر يتطوّر باطراد إلى تهديد كيانيّ للأمّة كقوميّة ووجود سياسيّ وموقع جغرافيّ، ولا تدّخرُ إيران وُسعا في تحويله لتهديد دينيّ كذلك، ووصل مع حلب والموصل ودمشق إلى تهديد سكّاني. هذا القدر من الاستباحة سيستفزّ عوامل متعدّدة لم تُحرّكها النسخة البريئة من الربيع العربيّ. العربيّ اليوم مهدّد في رزقِه وبيتِه وقوتِ أطفالِه بقدر ما هو مستلَب الحرّية ومهدّد في كيانِه الجامع وتاريخه ودينِه. هذه التحدّيات لا تمرُّ بلا استجابة وتحوّلات خطيرة إلا إذا كنّا بِدعا من الأمم وكان تاريخُنا بِدعا من تواريخِها.

 

ما نمرّ به اليوم يتجاوزُ رغبتَنا في التّفاؤل أو ارتكاسَنا إلى التّشاؤم، ويتجاوز قدرتَنا على التّسامي عن الألم أو رضانا بما نالنا منه، بل يتجاوزُ اختيارَ الحرّية على الاستبداد باعتبار ذلك الخيارَ الأخلاقيَّ الصحيح. الحريّة اليوم، بالإضافة لكلّ معنى جميلٍ أسبغتْه علينا أو أسبغناه عليه، هي إرادة بقاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.