شعار قسم مدونات

القراءة وأثرها في بناء الوعي

blogs - reading

تاريخ تلقي المعارف والعلوم ابتداء بالسمع كواحدة من أيسر الوسائل للتواصل البشري، ثم احتاج الإنسان لأن يحتفظ بهذه العلوم وذلك التاريخ، وأمام هذه الحاجة انتقل للكتابة للتعبير عن تاريخه وتواصله مع الآخرين واستلزمت الكتابة وجود القراءه لفهم هذا المكتوب.

الانتقال إلى الكتابة كان مرحلة مهمة جدا في بناء الفكر لأن الكتابة والقراءة تعطي المساحة الأكبر للعقل والطرح المبني على المقارنات والبناء العقلي بينما السمع يعطي مساحة أكبر للعاطفة والوجدان.

الإنسان إذا لم يزدد معرفة وعلما لا يبقى كما هو بل يسوء استخدامه لما تحت يديه من علوم لأن معيار التصحيح والنضج غير متوفر.

ولأن الإسلام دين العقل والقرآن معجزة عقلية، كانت أول آية في كتاب الله اقرأ، وهي بمثابة توأم بين معجزة القرآن العقلية الفكرية وبين أساس البناء الفكري وهو القراءة، وهو انتقال محوري من ثقافة السماع والرواية الصوتية لمرحلة أكثر قوة وتأثيرا وبناء للمعرفة، وهي مرحلة القراءة والكتابة.

فالأمة السمعية أقل وعيا من الأمة الكتابية والقرائية لأن المعرفة تراكمية وتحتاج للاستفادة من تجارب من سبق والبناء عليه، والسمع يحدث به الإخبار والتعبير به عن الثقافة والمعرفة الحاصلة، بينما القراءة والكتابة يحدث بها البناء على الأسس التراكمية وبهذا يحدث الارتقاء المعرفي للبشرية.

وما سبق يجعل القراءة والكتابة أحد أهم المحاور الأساسية للارتقاء المعرفي، وتفاوت تبعات القراءة بين المجتمعات وعيا وفكرا وثقافة، ففي عام 1440 بدأت عملية الطباعة الآلية في ألمانيا على يد فريق برئاسة يوحنا غوتنبرغ. وكان عمل الأخير تطوير الطباعة على القوالب الخشبية التي يقوم بها الصينيون حيث استفاد من خبرته في صياغة الذهب على تكوين القوالب المعدنية للطباعة خلال قرن واحد كانت الطباعة قد انتشرت بشكل كبير في كثير من أنحاء العالم.

وصلت آلة الطباعة إلى الدولة العثمانية عام 1492 التي كانت تحكم أغلب الدول العربية حيث صدرت فتوى من شيخ الإسلام -وهو المفتي في الدولة العثمانية في حكم بايزيد الثاني- بتحريم طباعة المصحف وكتب الدين عموما ثم اقتصر استخدام الطابعة على البلاط السلطاني والمراسيم السياسية.

في عام 1495 قامت الطائفة اليهودية المهاجرة للدولة العثمانية باقتناء آله الطابعة بعد إذن الدولة العثمانية لهم فبدأ اليهود وغيرهم من الطوائف كالأرمن بطباعة كتبهم ومؤلفاتهم وتداولها، بينما بقي المسلمون محرومين من الاستفادة من هذه الآلة الهامة في نشر وتداول المعرفة حتى حملها نابليون على مصر عام 1798 حيث أحضرمعه آلة الطباعة.

هذه الآلة كانت مخصصة لمراسم الدولة المختلفة وبعد حوالي عشرين عامًا وفي عام 1819م أنشأ والي مصر محمد علي باشـا مطبعة عُرفت بالمطبعة الأهلية أيضًا ثم نُقلت إلى بولاق فعرفت بمطبعة بولاق أو المطبعة الأميرية، وبقيت هذه المطبعة خاصة بمراسيم الدولة وأذن لها أن تطبع بعض الكتب الإسلامية بشكل محدود.

عند التأمل البسيط بين تاريخي اكتشاف آلة الطباعة عام 1440 وبدء السماح للطباعة بشكل علني بين العرب عبر مطبعة بولاق نجد أن المثقف العربي كان يعيش فجوة عميقة لما يقارب أربعة قرون، بينما كان غيرهم يقفز قفزات معرفية كبيرة ولا يمكن تجاهلها عند محاولة فهم التخلف والتقدم بين العرب والدول المتقدمة.

ولو حاولنا أن نجمل بشكل سريع فوائد القراءة على الفرد وعلى المجتمع لما استطعنا حصرها ولكن يمكن أن نشير إلى أهمها:

أولا: الثراء والارتقاء الفكري والمعرفي: فالإنسان إذا لم يزدد معرفة وعلما لا يبقى كما هو بل يسوء استخدامه لما تحت يديه من علوم لأن معيار التصحيح والنضج غير متوفر، فحقيقة العلوم والمعارف تراكمي،  لذلك فالقراءة إنضاج وتصحيح للعلوم والمعارف، ومن لم يقرأ ولم يكتب فإن علومه قد تتعرض للانقراض والضعف والترهل وهو لا يشعر.

ثانيا: الاستعصاء على الانقياد الأعمى:  فلدى الإنسان القارئ وعي وفهم للحياة أكثر من غيره لما يضيفه من خبرات وتجارب الآخرين، كما أن لديه القدرة على تحليل الواقع والأحداث والخروج بمقاربة للحقيقة والصواب بما يملك من اطّلاع على خبرات وتجارب السابقين.

القارئ عندما يأتيه أي مسار أو توجيه جديد يبدأ بعملية التحليل والنظر والمقارنة ثم يقوم بعملية الفرز التي تُمكنه من تمييز الصالح من الفاسد والحسن من القبيح والنافع من الضار، وهو بذلك يُكسب بنفسه حصانه قوية ضد التغرير به والاستجابة اللاواعية لكل صوت يريد استقطابه.

ولما فطن الأعداء لذلك، كان من أولى همومهم نشر الجهل وتسطيح القراءة لتنحدر إلى جانب لا يبني أو يرتقي بالعقل ليبني الحصانه الفكرية للإنسان.
 

القراءة تعتبر القنطرة التي تفصل بين الوعي واللاوعي فصناعة الإنسان القارئ أمر مهم جدا لبناء أي حضارة ووضع بذور أي نهضة.

ثالثا: نفي التعصب والتشدد:  فالقارئ النهم تتجمع لدية الكثير من الأطروحات والرؤى الفكرية المختلفة، فتتكون لديه قدرة على التوازن في الطرح و الاكتساب المعرفي بعكس من يحيط نفسه بنمط معين من القراءة فيتخذ مسارا واحدا وفكرا واحدا وطريقه واحدة، تجعل منه متقوقعا فيها وهو لا يشعر حيث يتهم كل من خارجها بالتخلف لأن بنيته المعرفية منحصرة داخل بوتقة مغلقه وهذا بسبب الانحصار الفكري الضيق.

أما الذي يوسع دائرة البحث والاطلاع ويلهث وراء المعرفة أينما كانت تتكون لدية القدرة على المقارنة والنقد، وهنا يقل التعصب والتشدد لكون القارئ النهم يدرك أبوابا مختلفة وزوايا متنوعه للأفكار والتعبير عنها ويدرك اسبابها ومسبباتها وطبيعة المتعاملين معها.

رابعا: مهارات الاحتجاج والجدل والاستدلال: وهذا ناتج عن غزارة الاطلاع عوضا عن مهارات كثيرة أخرى من تدريب العقل والذاكرة، ومهارات التعبير عن الأفكار لغويا وفكريا التي تحدث بسبب تراكم المعرفة والاطلاع، لتؤدي في الأخير لبناء لمهارات التحليل والنقد وفك الرموز التي تجعل من صاحبها على قدر كبير من الفهم والوعي، وهذا بدوره يثمر إنتاجا ثقافيا ووعيا اجتماعيا ينهض باي مجتمع.

فالقراءة تعتبر القنطرة التي تفصل بين الوعي واللاوعي فصناعة الإنسان القارئ أمر مهم جدا لبناء أي حضارة ووضع بذور أي نهضة، وتبقى ضرورة الإلمام بكيفة القراءة وكيف نستفيد من القراءة أمرا مهما، فمجرد القراءة لذاتها مفيدة ولكن القراءة الواعية الناقدة ذات التأصيل الفكري العميق التي تنفي عن صاحبها التعصب وترتقي بفكره وسلوكه هي القراءة التي ينبغي أن يحرص عليها الجميع وهي القراءة المنشودة لنهضة أي أمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.