شعار قسم مدونات

رحلة إلى أرض الأشكريم

blogs - library
أعتقد أن الكتابة والحقيقة مرتبطان بعلاقة صداقة فيما بينهم، أو هكذا كنت اظن، حين قرأت أول كتاب أسرقه من مكتبة والدي، أحسست أن هنالك لعنة ما في ذلك الكتاب أصابتني، فلم أستطع التوقف من بعدها لا عن القراءة ولا عن السرقة.
 

لا أذكر أني استوعبت شيئا من ذلك الكتاب الضخم صاحب الغلاف القديم، سوى أنه لكاتب اسمه كارل ماركس، كل ما وجدته بين صفحاته كان مبهماً لدي، لكن لم أتوقف ابداً ولا أعرف لم، ما الذي كان يدفعني للذهاب لتلك الرفوف، على الرغم من عدم استيعابي لمعظم تلك الكتب التي طالتها يدي، وبينهم أيضاً ما استمتعت به جداً، وهو ينقلني بكل خفة إلى ذلك العالم الغامض، وكيف أصبحت الكلمات تتحدث لتشاهدها أمام عينيك.

أحببت كتب التاريخ، وأحببت كيف تأخذني من بين حياة مصر القديمة إلى شبابها، ومن حضارات الإغريق واليونانيين وأساطيرهم وفلاسفتهم ولحظاتها المظلمة إلى مستقبل أوروبا المشرق، إنها تلك الحقيقة، حقيقة كيف أصبحت ممسوساً بتلك الكلمات، وكيف أصابتني لعنتها.

حين قادتني الصدفة أن أبحر إلى تلك الأرض، أرض الكتابة، أصبت باليأس، لم تكن أرضا للأحرار كما كنت أظن، فالأمراء لا يخافون من عواقب حديثهم، أما انا فقد خفت.

القراءة حياة، لها خصوصيتها فحين يفتح أحدهم مجلدا، ينفصل عن حياته الحقيقة ويكون ما يريد، يمكن أن تكون صاحب دكان في غرناطة أو تاجر شامي، فارس في جيش، أو رائد فضاء، تجد في القراءة ما يغوص في أعماقك، أو ما يرتقي بمشاعرك إلى عنان السماء، وتجد ما يلطف عنك وطء الآلام، وما يدفعك دفعاً إلى الجنون، تعيش فيها صيفا حارا في إفريقيا، وشتاء باردا في أمريكا، وربيعاً في الشام وخريفاً أوروبياً.

أنا في الحقيقة ممتن إلى فضولي الطفولي، وإلى ذلك الكتاب الذي سرقته، وإلى كل من يسطر حرفاً بكل جهد ليخرج صادقاً، من أجل أن يحمله أشخاص لا يعرفونه، أو حتى يهتمون لمعاناة كاتبه، أو يمكن أن يشكره أحدهم في يوم ما.
 

كم تمنيت أن أصبح مثل هؤلاء الكتاب، أستطيع أن أمسك من اللغة ما يضمن لي أن أكتب، وقبل أن تطأ قدماي أرض الكتابة، كنت أراها بعيني قارئ أرض الفضيلة، فيقدم الكاتب إلى القراء عصارة تفكيره وجهده وبحثه بسعر بخس، لا يساوي ساعات سهره أو إرهاقه. ظننت أنها ارض الأحرار، وأن كل من يمسك قلماً هو أمير في مملكته الخاصة، وشعبه هو كلماته. لا أعرف لم أكتب! أظن أن الكون أكبر من استيعابي الصبياني مهما حاولت أن أدرك كيفية عمله، لكن يحدث أن أكتب ولا اعرف شيئا آخر غير ذلك، فحين أنتهي من الكتابة أظن أن ما انجزته هو أفضل ما كتبت، فيمر مرور الكرام، وحيناً آخر أكتب شيئا لا أرضى عنه فأفاجأ بقبول شديد له.

في الكتابة، الأمراء شتّى والشعوب أيضاً، فيهم الصالح ومنهم الطالح، والقارئ هو القاضي، فحين قادتني الصدفة أن أبحر إلى تلك الأرض، أصبت باليأس، لم تكن أرضا للأحرار كما كنت أظن، فالأمراء لا يخافون من عواقب حديثهم، أما انا فقد خفت.

بدلاً من التفاهم والنقاش، وجدت قيود وأسوار مرتفعة بين الكاتب والحقيقة، فالكلمات والحقيقة ليسوا أصدقاء بل هم أعداء، كل منهم يحاول أن يطمس الآخر، أصبت بصدمة جعلتني أتساءل، هل الكاتب هو أقل الناس معرفة أم العكس؟

حين نجلس ونمسك بتلك الأقلام، وننكب على تلك الأوراق نسطّر فيها، ونبذل جهداً في كتابة الحقيقة، أو من أجل تزييف الحقائق أيضاً، الجميع يبذل جهد ولكن الفرق بينهم كبير، الفرق بين الطبيب والقاتل، بين من يشفي آلاف العقول الحائرة وبين من يقتل الآلاف بكلماته الخبيثة.

الجميع يكتب جزءا من حياته، حتى وإن حاول أن يمنعها، فانظر جيداً كم أريقت دماء بريئة من أجل بعض الكلمات، وإلى تلك الدول المتقدمة المسالمة كيف أصبحت بكلمات ايضاً، فكل من يسطر كلمة في غير محلها هو ملعون، لعنته الحقيقة والإنسانية على السواء، فإن لم تستطع أن تصبح طبيباً فلا تكن قاتلاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.