شعار قسم مدونات

الشيخ الرومانسي

blogs - Al Azhar

لا يخفى على متابع، وإن غير منتظم، ذلك الحضور الكثيف للشؤون العاطفية والجنسية في النقاش اليومي للنخب الدينية الشبابية التي هيمنت خلال سنوات الربيع العربي على الحقل الديني في مواقع التواصل الاجتماعي.

 

كان الربيع العربي قد شهد صعود نخب جديدة بين التيارات والجماهير المتدينة، ينتمي أغلبها إلى التيار السلفي الذي هيمن هو نفسه على المجال الدعوي قبل الربيع العربي في ظل انشغال الإخوان المسلمين بالعمل السياسي ونفاد رصيد الجماعة من الدعاة وعلماء الدين اللافتين، بينما ينتمي شق من تلك الوجوه كذلك إلى النخب الأزهرية الجديدة التي كان بعض المشايخ الأزاهرة قد عملوا على تكوينها إثر انزعاجهم من حالة الوفاة السريرية التي دخل فيها الأزهر منذ مطلع التسعينات؛ إن لم يكن قبل ذلك.

 

يحتل العاطفي الجنسي منزلة مركزية في الحياة الإنسانية، فلا يمثل حضوره بشكل عام ظاهرة فريدة، فالوقوف عند حضور الجنسي ليس أكثر من ضرب من الافتعال والتكلف بحثا عن مفارقة غائبة تكون موضوعا لكاتب مفلس. لكن هذا القدر من حضور العاطفي الجنسي في النقاش اليومي لنخب دينية هو، في المقابل، ظاهرة لافتة بالطبع.

 

إن مزيدا من التبع الزمني أو الرجوع إلى الوراء يكشف حقيقة أن هذا الحضور اللافت للعاطفي الجنسي في خطاب كثير من الدعاة السلفيين الشعبيين كان كبيرا أو أكبر من المعتاد بين رجال الدين كذلك. لكن ما ضاعف تلك المفارقة كان امتداد ذلك الحضور إلى نخب تقدمت بالأساس كنخب علمية أتت لتحل محل النخب القديمة لتلك الأسباب بالذات: الضعف العلمي، وركاكة الخطاب العام في وقت تورط فيه رجال الدين بإرادتهم أو رغما عنهم في الشأن العام. يلفت النظر كذلك بالقدر نفسه، أن تكون تلك الظاهرة محل التقاء ذينك الفريقين، السلفي والأزهري، على الرغم من تضادهما المذهبي.

 

مثلت الحالة السلفية الدعوية نمطا خاصا جدا من التدين الحديث، فهو ليس بالتدين الشعبي، حتى المتشدد منه، إذ أنها عرفت نفسها خارج المجتمع العام مطلقة على المنتمين إليها اسم "الملتزمين"؛ غير أنها كذلك لم تنتمِ إلى التدين الحركي، حتى السلفي منه لا الإخواني فحسب، بل حرصت أحيانا في خطابها السياسي على تأكيد اتساقها مع مؤسسة الدولة، ولم تسع واقعيا إلى الانتظام الحركي بقدر ما سعت إلى عمل أقرب إلى العمل التطوعي الأهلي وامتداده الربحي.

 

لا يمكن الاقتراب من هذا النمط الخاص إلا عبر سؤال النشأة. فرموز هذا التيار كانوا تاريخيا من أبناء الصحوة الإسلامية في نسختها السلفية؛ إلا أنهم سرعان ما نقلوا التجربة السعودية للعلاقة بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة، مبتعدين عن التجربة الإخوانية والقطبية التي تأثر بها مع ذلك كثير من السلفيين. ومع اتساع الفجوة بين الدولة الساعية نحو التحديث، الظاهري بالأساس، تحت ضغوط الخارج والطبقات الاجتماعية الجديدة والعداء للتنظيمات الإسلامية، وبين تلك النخب الدينية التقليدية، صارت تلك الحالة تتشكل أكثر فأكثر كنسخة مشوهة من التدين الحركي الحديث لا التدين المؤسسي (على طريقة الأزهر مثلا)، أي بعد تجريد التدين الحركي من بعده السياسي والاجتماعي.

 

مع تداعي التدين الحركي بعد 30 يونيو، وتحديدا فض رابعة، تحولت الجماهير الإسلامية الشبابية عفويا إلى تلك الحالة الدعوية الفردية بما تتسم به من هدوء ودعة

أنشأت تلك الحالة عبر ذلك جيلا اجتماعيا أسمته "الملتزمين"، وهو جيل معزول زمانيا عن مجتمعه العام، وإن كان متورطا فيه مكانيا. ومع انفتاح المجتمع، صار هذا النمط أشبه بنكوص regression، إذا ما استخدمنا تعبيرات السيكولوجيا، في النمو الطبيعي للوعي والممارسة الدينية. كان طبيعيا أن يعاني ذلك الجيل نوعا من الكبت، ليس بسبب قصور ميكانيزمات الإشباع الجنسي فيه متمثلة في مؤسسة الزواج، ولكن بسبب أنه يقع مكانيا رغما عنه في مجتمع أكثر انفتاحا، وأكثر انغماسا في رفاه إيروتيكي بامتياز.

 

وفي مقابل برامج الجنس والمنتجات المختلفة المعتمدة عليه، كان ذلك الحضور الكثيف للعاطفة والجنس في النقاش اليومي للمشايخ هو البديل الرومانسي لتلك الإيروتيكية الضاغطة، في غياب ميكانيزمات التسامي التي يوفرها التدين الحركي من دفء حماسي وانهمام بالسياسة والشأن العام، وهو، أي التدين الحركي، أقرب في تدينه إلى المجتمع من تدين الملتزمين غير الحركيين. وعليه كانت الرومانسية حتى حال حضورها داخل هذا التيار، أشبه بالطفح الجمالي والعاطفي للحركية الحماسية، كما نشهد لدى اليسار مثلا في أدبياته.

 

لم تكن النخب الدينية الجديدة تنتمي إلى تلك الحالة الدعوية، بل كانت تنتمي إلى حالة علمية، فهم طلاب علوم دينية بالمعنى التقليدي، ولم يكونوا ممن تروقهم تلك الحالة الدعوية. لكن سخط تلك النخب العلمية على التدين الحركي لأسباب مختلفة، أدى إلى ردة انتكاسية لدى تلك النخب العلمية إلى الحالة الدعوية نفسها التي كانوا هم أيضا ساخطين عليها.

 

فمع تداعي التدين الحركي بعد 30 يونيو، وتحديدا فض رابعة، الحدث الكاسر للتدين الحركي (راجع: أنغام المقصلة)، تحولت الجماهير الإسلامية الشبابية عفويا إلى تلك الحالة الدعوية الفردية بما تتسم به من هدوء ودعة، خاصة مع خطاب تلك النخب التي صارت تؤكد على الطبيعة الإنجيلية، إن صح التعبير، للدين، أي تلك المركزية للممارسة الدينية الفردية والشعائرية، في مقابل نبذ التدين الحركي ومركزية السياسة والشأن العام.

 

في الحقيقة، كان ولع المشايخ بتلك الحالة الدعوية، سواء المشايخ الكبار أو هذه الوجوه الجديدة، ليس مذهبا دينيا أو فكريا، بقدر ما هو خيار اجتماعي. فتوغل الشيخ في الحياة الشخصية كان أحد الحصون التي حاول بها الحفاظ على رأسمالها الرمزي بعد أن ضعضعت حصونه هجمات السياسيين والمثقفين وغيرهم من النخب الاجتماعية. فهو لا يضمن لهم التأثير فحسب، كما في مجال الفتوى مثلا، الذي تآكل اليوم، بل يضمن لهم كذلك أسر المريدين في علاقة شخصية، أشبه بعلاقة غواية متبادلة.

 

فالنسق الديني لم يكن ليسمح بتراجع منزلة السياسي الذي يحتل فيه منزلة مركزية بمنطق الجهاد والإصلاح الاجتماعي والاهتمام بالشأن العام؛ وهو ما يبرز في سير الصحابة وأقوالهم المأثورة، بل وفي النصوص القرآنية والنبوية ذاتها. لكن الحاجة الاجتماعية لرجل الدين للحفاظ على سلطاته لم يعد ممكنا في هذا الإطار.

 

إن هذا الحضور الكثيف للعاطفة والجنس في خطاب النخب الدينية الجديدة هو أثر لتصورهم الديني الذي يركز على الفردي والشعائري في مقابل العمومي والسياسي، وهو بدور خيار اجتماعي يحاولون عبره الإبقاء على سلطتهم الرمزية، مولِّدين نمطًا مشوهًا من التدين يحتاج إلى وقفة ومراجعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.