شعار قسم مدونات

خلق مجرم من كل ضحية

Syrian Ambassador to the United Nations Bashar al-Jaafari speaks with Russia's Ambassador Vitaly Churkin ahead of a United Nations Security Council vote, aimed at ensuring that U.N. officials can monitor evacuations from besieged parts of the Syrian city of Aleppo, at the United Nations in Manhattan, New York City, U.S., December 19, 2016. REUTERS/Andrew Kelly

كثرت في هذا الشهر المظالم وثقلت، لدرجة أن كل تحليل سياسي لا بد وأن يشعر صاحبه بالذنب. في بعض الأحيان يكاد حياد التحليلات السياسية يكون عدوانا آخر على الضحايا. ماذا يمكن لهذه التحليلات أن تضيف لرجل استطاع أن يخرج بولد واحد فقط من مدينة محاصرة لأن أولاده الآخرين قتلوا، ما الذي يمكنها أن تضيفه لامرأة فقدت ابنها تحت سيارة نقل لعملاقة دهست محتفلين على شاطئ او في سوق، ما الذي يمكن أن تضيفه هذه التحليلات لذوي القتلى الذين أودوا في قاعة عزاء أو في قاعة أعراس.  

 

المؤلم في التحليل السياسي كعلم مجرد، وفي السلطة السياسية كممارسة مادية، أن المحلل والحاكم يريان السياسة أكبر من الناس، يتعاملان مع الحروب والمذابح على أنها أحداث تبدأ وتنتهي ويستمر العالم، بينما موت إنسان واحد هو أكبر من سياسة العالم كلها، عنده ينتهي الكون، كون ذلك الإنسان على الأقل. إنك تحاول ما استطعت بالعلم أو بالسلطة، إن كنت شريفاً، أن تدرأ الموت عن الاخرين أو عن نفسك. إلا أن نجاحك بالضرورة مؤقت.  وكلما واجهت هذه الحقيقة، أعني أنك كلما رأيت رجلاً أو امرأة أو طفلاً يقتل، واجهت فشلك، فشلك في منع الموت عنهم، في تأجيله، في إرباكه ولو لفترة. ثم حين تفكر في أن الموت آت للجميع ولا محالة، ترتبك أكثر، لأنك تكون قد وقفت نفسك بين فشل المسعى، أو انعدام الجدوى منه أصلاً.

 

إن أكثرنا، أعني كل مهتم بالشأن العام، أعزل من السلاح والمال والنفوذ، نشعر بعجز الممرضين والأمهات والأطباء الشبان والمسعفين في وسط المذبحة، وكلما كان الممرض أو المسعف أمهر في مهنته كلما كان ألمه أكبر، مختلطاً إحساسه بين الذنب، واليأس.

 

تشابكات التحالفات الإقليمية والدولية حولنا اليوم شبيهة بما كانت عليه حال أوروبا قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى. يحارب المرء فيهم حليف عدوه وعدو حليفه، وحليف عدو حليفه، وحليف حليف عدوه

إن العالم الآن يمر بفترة شديدة الصعوبة، كل ثنائيات حروبه قبيحة، المنتصر والمهزوم فيها قبيحان، ولا فرق بينهما إلا في القوة المؤقتة والضعف المؤقت. أما خصال الجمال والنبل والأخلاق فكلها ضحايا ممددة مع الأطفال الشهداء.  وقد تشابهت الامبراطوريات وأتباعها في قبح الفعل، والفرق بين ألوان الأعلام المدهونة على أجنحة الطائرات الحربية لا يمكن أن يراه ضحايا القصف.

 

أفهم الحرب حين تكون غضباً شخصياً، فالفلسطيني الذي طرده مستوطن إسرائيلي من أرضه، ومنعه من العودة إليها لأنه ليس يهودياً، وسمح لأي إنسان أن يسكن فيها إن كان يهودياً، يحق له مقاومة هذا الظلم بكل الوسائل المتاحة. وأفهم الثوار في كل البلدان العربية بلا استثناء حين يقاومون رجال الأمن الذين يطلقون النار عليهم لمجرد أنهم مارسوا حقهم الطبيعي في الكلام أو في الهتاف في الشوارع.

 

ولكن لا أفهم هذه الحروب التي أصبح كل امرئ فيها ينتقم من شخص أعزل لا علاقة له بالصراع بعيد كل البعد عن المجرم الأصلي. فترى رجلاً يقتل مدنياً من دولة ما لأن دولة أخرى حليفة لها قتلت مدنياً من دولة ثالثة يعتبر القاتل أنها تخصه. ويعلم هذا القاتل أنه لن يحمي من يحب، وأنه شفى غليله من غير أن يدرك ثأره، وأنه لعجزه عن أخذ ثأره، ارتكب جريمة شبيهة بتلك التي ارتُكبت في حقه وسمى ذلك إدراكاً للثأر. هو يعلم أن قتلة أحبابه مستمرون في القتل، ولكنه يقنع نفسه بأنه انتقم وبأن ثأره قد نام، بينما ثأره ما يزال يصيح في البراري كطير الصدى في الأساطير.

 

هذا الاحوِلالُ الكوني لا يؤدي إلا إلى اتساع دائرة التظالم إلى حدها الأقصى، وخلق مجرم من كل ضحية، بينما ينجو المجرمون الأصليون فلا يعاقبون أبداً.

 

إن تشابكات التحالفات الإقليمية والدولية حولنا اليوم شبيهة بما كانت عليه حال أوروبا قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى. يحارب المرء فيهم حليف عدوه وعدو حليفه، وحليف عدو حليفه، وحليف حليف عدوه، حتى ينتهي الأمر بأمريكي لم يهدده ألماني قط، يقاتل ألمانياً لم يهدده أمريكي قط، في قرية فرنسية، ثأراً لرجل نمساوي قتله رجل صربي في مدينة بوسنية.

 

وقد ضرب المثل في العناد وغرابة الأطوار ببكر وتغلب حين تحاربوا أربعين عاماً على ناقة البسوس، ولكن يبدو أن العالم أشبه بهاتين القبيلتين مما يظن.

 

هذا شهر حزين، وهذه السنة المنقضية كانت حزينة. عسى أن تفرج، ولو قليلاً في السنة القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.