شعار قسم مدونات

الحماس الجمالي في الكتابة

blog-الكتابة
في مَعرض جوابه عن تساؤل "لماذا أكتب؟" ذكر الكتاب البريطاني "اريك بلير" الذي عُرِفَ باسم "جورج أورويل" واشتهر بكتابيه "1984 ومزرعة الحيوان"، تحدث عن دوافعه للكتابة والتي منها "الحماس الجمالي" الذي وصفه بأنه "إدراك الجمال في العالم الخارجي أو من ناحية اخرى في الكلمات وترتيبها الصحيح، البهجة من أثر صوت واحد على الآخر، في تماسك النثر الجيد أو ايقاع قصة جيد، الرغبة في مشاركة تجربة يشعر المرء انها قيّمة ويتعين عدم تفويتها".

 

العُمق شيء لا نتعلمه، إنه يحدث وأنت تتعلم وتكتشف وتبحث وتقرأ ولا تتوقف عن التساؤل والدهشة، فتتوسع مداركك وتزداد معرفتك فينمو قلمك على مَهَل.

قبل أن أشرع في الحديث حول الحماس الجمالي، أود الاعتراف بأنني لا أمتلك وصفة سحريّه من شأنها أن تُضفي جمالاً على النص، ولا أدّعي معرفة الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها الكتابة، فقط سأحاول عرض بعض الأمور المتعلقة بها من واقع تجربتي، فليس لديّ أي صفة اخرى أحبها في حياتي أكثر من الكتابة والتي تصل بي إلى منتهي النشوة.

 

ثمة فارق بين الكتابة والنُضج، وليس هناك أسوأ من كاتب وعيه ضَحل

كُل إنسانٍ منّا مدفوعاً بين قوتين تحكمان هويته ووجوده "عاطفته وعقله" إنهما رُكنان لا يُمكن تعطيلهما عند أي إنسان، فالنضج لا يتعارض مع العاطفة بل لا يكاد ينفك عنها، لكنها تنضج هي بدورها تُصبح انتقائية وعالية الحسّ والوعي فتتحول إلي عاطفة إبداعية، لذلك أري أن التناغم بين العاطفة والعقل لحظة الكتابة يؤثر ايجاباً على ذائقة الكتاب فيدفعه لانتقاء مُفرداته بعناية مما يُضفي جمالاً وحيوية على النص فلا تملكه أمامه وأنت تقرأ سوي أن تقول الله بصوتِ عالٍ مُمتد من فرط عذوبته وصِدقه.
 

الكاتب الحقيقي لا يسأل لماذا يكتب ولا كيف ولمن يكتب؟!

إن أسئلته كلها تصير نصوصه التي يكتبها تحت إلحاح نفسي رهيب ويشعر أنها تخرج من أعمق نقطة في إدراكه وأن حتى لغته لا تساعدها كما يجب، لكنه أبداً يكتب، لحظته التي تسبق الكتابة هي صمت وشعور مرير بالإرهاق وشدة التعب لأن الكتابة كما عرَّفها كافكا "هي انفتاح جٌرح ما".

 

أمّا مَن يكتب من أجل تحصيل المال أو بدافع التباهي لا يُعَدُ كاتباً، مؤخراً تجوّلت في أحد معارض الكتاب فتحت كتاباً اتصفحه ومن نصف صفحة استسلمت للضحك ووجدت الأمر مُخجلاً وكم هو مضحك أكثر أن يُسمي هذا الشخص نفسه كاتباً، لا أدري من أين لهم بكل هذه الثقة؟!

 

كاتب لا يملك أدني مُقوّم من مقومات الكتابة حتى الكتابة على الجدران، لكنها رداءة الواقع والثقافة والوعي القرائي عندنا الذي لا يختلف عن طوابير شراء كيس ارز في أحد عروض كارفور. الأمر أصبح استهلاكي بحت ولا علاقة له بأي نوع من أنواع المعرفة والفكر واحترام الذات، مادام هناك مال ومتي توفرت دار نشر فليس من العسير على أحد أن يصير كاتباً فجأة.

 

أهم نقطة تحول في حياتي هي اللحظة التي أمسكت فيها قلماً لأكتب، وعندما اكتشفت كم هو مريح ومتسامي فِعل الكتابة، تيقنت أنني كنت أعيش في قفص.

الكاتب المُفضل عندي هو الذي يجعلني أحس وأتعاطف مع كل شيء يكتبه حتى لو كان وثيقة إعدامي شنقاً وأنا مظلوم، تُزلزلني المفردات القوية والمعاني العميقة فلا تعبر ذاكرتي بسلام، بل تُحدث ضجة في مفاهيمي وتلهمني كل يوم، الناس تصدق الحشو الزائف وتنقاد له وتحبه وتُكاثره، لذلك عندما تأتي الحكمة عميقة لا أحد ينتبه إليها سوي الذين استعدوا لها طويلاً، بأن دفعوا عن عيونهم وقلوبهم ما استطاعوا من النص الزائف والحشو الفارغ، وتفرغوا للانتباه للفكرة والاحتفاء بالعُمق.

 

هذا العُمق شيء لا نتعلمه، إنه يحدث وأنت تتعلم وتكتشف وتبحث وتقرأ ولا تتوقف عن التساؤل والدهشة، فتتوسع مداركك وتزداد معرفتك فينمو قلمك على مَهَل.

 

أهم نقطة تحول في حياتي هي اللحظة التي أمسكت فيها قلماً لأكتب، وعندما اكتشفت كم هو مريح ومتسامي فِعل الكتابة، تيقنت أنني كنت أعيش في قفص، فِعل الكتابة بحد ذاته وما أثاره في عقلي وبديهيتي وروحي فتح لي باب القفص ودون أن أشعر راعني وِسع ورحابة العالم في ظلال الكتابة، ورغم أن شغفي وجوعي لها بدأ في سن مبكرة إلا أنني لم أصل بعد إلى حد الاكتفاء منها بل ما زلت لا أعرف كيف أكتب.

 

نهاية أقول.. أننا موجودين لنشعر، لنحوّل شعورنا الى شيء ثمين ومقدس، مهما كان ما نشعر به مُزرياً وحزيناً، يجب أن نعبّر عنه، أن نبحث عن ابداعنا الخاص، وطريقتنا في ايصال صوتنا ووجعنا، في تحويله الى نص او تحفة او كتاب او لوحه، في جعل الحياة احتجاج مستمر على هذا الحزن والأسى، احتجاج مثمر وغنيّ كي لا نموت بجرعة صمت زائدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.