شعار قسم مدونات

كنتُ أريدُ أن أحيا

blogs - write
عندما بدأت الكتابةَ أردت أن يكونَ لصوتي وقعٌ عظيمٌ، أردت أن يسمعني أحدهم أو يقرأني في كتاباتي، أردت أن أكون حرًا، لا يُهم من أين أتيت، أو من أين أنا، المهم أن أُعبرَّ عن قضايا أمة طالما عاشت في الظلام، المهم أن يكونَ لي رسالة.

عندما كنت طفلة، كنت أؤمنُ بوعود الكبار، أستمع إلى شعاراتِ العظماء، أؤمن بها، كنت أضنُ أن في مكانٍ ما دولاً عظيمة، شعاراتٍ حقيقة، ومبادئَ سامية، ضننتُ أن هناك مَن سيُصلح حالنا، أُقلّب صفَحات دفاتري، ومقالاتي التي كنت أرسلها للجرائد الورقية، كانت أولُ مقالة لي في عمر الثانية عشرة بعنوان "ألا يكفي الحنان للجميع؟".

كثيرٌ من الأحلام صنعت تاريخاً عظيماً، كانت الأندلس حلماً صغيراً صنع عصراً ذهبياً، لكنه بُني على مبدأ، مبدأ يؤمن بقتل الظواهر البشعة لا البشر.

كنت أُطالب السلطاتِ بتحسين أحوال الفقراء في بلادي، بعدها كتبتُ عن التعليم، عن الصحة، عن الظلم عن الموت، ثم بدأت أشعر بالملل، فمنذ ذلك الحين إلى اليوم ونحن من سيء إلى أسوء، ما عدت أؤمن أن هناك دولا عظيمة، ما عدت أؤمن بمبادئ تغيّرُ سماء أحلامنا، منذ أن كتبتُ أولَ مقالٍ إلى الآن، وجُلّ ما أتعرّض إليه هو الإحباط من البشر، نحن يا سادة يُدمّر بعضُنا البعضَ بقصدٍ وبلا قصد، نحن نسحق الأحلام لأننا نخاف من التطوّر، نخاف من نجاحات بعضنا البعض، ونخاف أن نتحرر.

عدت إلى الكتابة بعدَ أن تذكرت أنني ذهبت إليها منذ البداية بكامل إرادتي، لأنني أؤمن أن الكتابة فعل صريح وانتقادي وإلا فلم الكتابة؟ ذهبت إلى الكتابة لأنني أعرف أني فقدت كل اسلحتي، وما عاد بيدي سوى رصاص أقلامي.. وتذكرت قصة الأندلس، شيءٌ يبعثُ على التفاؤلِ، في قصةِ الأندلسِ.

لكي تصنع أمة عظيمة، فلا بد من بث الروح فيها، ولا يكون ذلك إلّا عند تحرّرها، كثيرٌ من الأحلام صنعت تاريخاً عظيماً، كانت الأندلس حلماً صغيراً صنع عصراً ذهبياً، لكنه بُني على مبدأ، مبدأ يؤمن بقتل الظواهر البشعة لا البشر، بتحرُّر العقول لا العقائد، بالانتِصار لا التقيُّد. نحن نقيّد أحلامنا وحرياتِنا بأيدينا، فكيف نصنع غداً مشرقًا، ونحن بلا حاضر يؤوينا، فقدنا عزائمنا منذ زمن، أصبحنا بلا عزيمة، أصبحنا صنعَ أيادٍ دخيلة، تتقاذَفنا في كلّ الاتجاهات، ترمي لنا بضع فُتات من خيرات بلادنا، نحن نُسرق على مرأى أعيُننا، ونترك للعالم أن يغتال ضمائرنا، نحن مأساةٌ صنعها لنا أعداؤنا، وجعلتنا نؤمن بإخفاقاتنا، نعيشُ على الخوف لأننا مقموعون من أساسنا، نحن مبتلَون في هذا العالم الذي لا يؤمن بوجودنا، فصنع لنا قبوراً بدلاً من أن يصنع لنا مستقبلاً.

إن كان بيننا مؤرخون، فلن تكفيهم أوراق العالم كله؛ ليكتبوا مأساةَ زمن قُدّرَ لنا أن نعيش فيه. سيكونُ عنوانُ التاريخ الذي ستقرؤه عنا الأمم القادمة: " فوضى على فوضى". سيسجل أكبرَ نسبة موت، ولجوء، ومرضى، ومجانين.. وما أكثرَ المجانين الأسوياء، في زمن تكون فيه سويًا كالقابض على الجمر. لا تدّعي الحبَّ أيها العربي، لا تدَّعي الحياة، سيشهد العالم أن زمانَك لم يكن فيه ذرةُ حب أو حياة.

لطالما اعتقدنا أن الوطنَ خطٌّ أحمر، وأننا لن نرحلَ حتى نموت أو نقتل.. نعيش ونتنفس لكننا نفتقر إلى أحلامٍ نُحلق على متنها، ونفتقد للحرية.

فنحن لا نعرف عن المدن إلا إن حلّت بها مصيبة، هل سألتم عن نسب الفقر في مدننا العربية من قبل، هل استفسرتم فيها عن نسب البطالة، عن تراجع أمنها الغذائي، عن مستوى التعليم والصحة، هل فكرتم للحظات أن تذهبوا بجولة إليها، تزوروا عائلاتها، أجزم أنكم لم تعلموا بوجودها مسبقاً، لأن هذه الأسر المعدمة لن تظهر لكم حاجتها. هل فكرتم من قبل ماذا يفعل الفقر بهم؟ ماذا ستكون نتائج هذه الحياة التي يعيشونها تحت خط الفقر؟ هل فكرتم بتحسين وضعهم المعيشي، الصحي، الثقافي، التعليمي؟

ورغم التقصير والفساد تظهر هذه الأسر لتفدتي أبناءها للوطن، وها هم في ضِمار الحروب يموتون الواحد تلو الآخر فداءً له. رُفعَت أرواحُهم إلى السماءِ، صاروا نجوماً تتلألأ في سمائنا.

في بلداننا العربية شعوب تدافع عن الأوطان بجسارة، شعوبٌ تُوَّلِد من رحم المعاناة كرامة، شعوب مؤمنة أن النصر مع الجماعة، شعوب لا تخون، لا تتكاسل، ولا تتوامى عن أن تحمي الوطن وأبناءه، شعوب تؤمن أن الوجع الإنساني واحد.. شعوب ما زالت رغم كل شيء، تؤمن بالعروبة والوحدة.

وها هو وجه الوطن، الميناءِ، والسفنِ، والنوارسِ الكثيرة فوق الشاطئ، والسماءِ، والقمرِ، والليلِ ينشر خيوطاً مائلة إلى زُرقة ثقيلة، والنار المشتعلة على رمالِ البحار.. الحرب كالنار المشتعلة، والسفن التي يرحل فيها المهاجرون إلى كلِّ مكان بلا عودة..

لطالما اعتقدنا أن الوطنَ خطٌّ أحمر، وأننا لن نرحلَ حتى نموت أو نقتل.. نعيش ونتنفس لكننا نفتقر إلى أحلامٍ نُحلق على متنها، ونفتقد للحرية، أؤمن بمقولة محمود درويش" كنتُ أريدُ أن أحيى، لا أن أعيشَ وأنا أحلمُ بالحياة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.