شعار قسم مدونات

مذكّرات فتاةُ حَلَب

blogs - حلب
الرسالة الأولى..

"البداية كانت دائماً من أفضل الأشياء واللحظات التي كان بالإمكان الحصول عليها، فيها يكون كُل شيءٍ جميلٍ ببهاء، كُل شعور يفيض بملء اختلاجه في القُلوب، حتى الحُب يكون جميلاً في البداية، أليس كذلك؟

 

لكن عندما تفكّرت جيداً في معنى البداية علمتُ أن السر في جمال البدايات ليس وقتها، وإنما السر يكمن في حاجتنا الدائمة للبداية التي نرمي فيها مواجع الماضي ونبدأ خلالها ما كُنا نتخيّل أنفسنا عليه، حتّى أنني أتكلّم في غير النص الذي أُريد، ولا أجد في ذلك تفسيراً ينأى بسؤالك عن الحياة التي أُريدها بعيداً، لكن.. لعلّي أردت العيش في ملمح وقتٍ جديد يخوض بي في أُفق الحياة التي أتخيل نفسي أعيش تفاصيلها بعيداً عن مكامن الخوف والقلق الذي يتربص بي هُنا.

 

لم يعد للقلب نبضُ أُنْمُلة تُبقيه على حاجة للعيش أكثر، فالروح قد فارقت طِيْب المجالس هٌنا، والموت بات مُحتلاً ولم يُبد لنا أملاً برحيله عنّا، حتى الهواء الذي يعتري جسدي لم يعد هوى بلادي، إنه يُشعرني بالبرد وأكثر.

كُنت كُلما نظرتُ إلى الناس من نافذتي التي بِت لا أرى شيئاً في ذاكرتي سواها، رأيتُ فيهم تلك الحاجةَ المُلحةَ نحو كُل شيءٍ تَحْبُوه النفس، فمَنْ تأذى اليومَ في شيء كانَ يُحب العكس فيهِ عندما بدأ في الأمر، ومَنْ يكرهُ أن تنتهي له الحاجةَ كان يُحبها عندما شَرَع في تمثيلها وبدأ الخوضَ في فصولها، فكُل شيءٍ يبدأ جميلاً لكن وحده الله مَنْ يعلمُ كيف سينتهي، لذا كانَ الجميعُ يبحثُ عن البدايات الجميلة أما أنا فكنتُ لا أُريدُ سوى النهاية فكُل البدايات سوف تكون مؤلمة يوماً ما.

 

حسناً، لكي أوضح لك الأمر.. أنا لست مُتشائمة إلى ذلك الحد الذي تظنّه، لكنّ الحياة لا تعرف سؤالاً لقلبي سوى ما الذي تبقّى لك كي أُزيله؟!، هي لا تعلم أن لا شيء فيها بات يعني لروحي روحاً، فلا ضَير في محاولةٍ أخيرةٍ منها كي تقتلني بعدما يئست من ذلك، فلم يعد للقلب نبضُ أُنْمُلة تُبقيه على حاجة للعيش أكثر، فالروح قد فارقت طِيْب المجالس هٌنا، والموت بات مُحتلاً ولم يُبد لنا أملاً برحيله عنّا، حتى الهواء الذي يعتري جسدي لم يعد هوى بلادي، إنه يُشعرني بالبرد وأكثر.

 

أتعلم؟

دائماً ما كُنت أجلس في شُرفة منزلنا، كُنت أنظر إلى الجمال الذي شاء الله له أن يبدو حياةً أُخرى تتلذذ أعيُننا المُتعطشة لرؤية السرور فيه، كُنت أنظر إليه وأفكر في نفسي، " يا له من جمال ذلك الذي يعُم بلدتي…" وبعدها كُنت أتنشق عبيرها الذي كان يملئُ رئتيَّ حُباً وعطراً لا يُمحى طيبه في النفسِ مهما تبدّلت حلقات الزمان، في كُل الصباح كان يخرج العم جابر ليشدو على كَمَانه أروع الأنغام التي تُطرب لها آذان الصباح، العصافير أيضاً كانت تُحب ذلك، فَمَنْ كان يرى التفافها حوله عند الواحة الصغيرة التي استوطنت تلك المساحة بين كُل هذه الجُدران العتيقة كان يعلم ذلك، فما إن يبدأ سيمفونيته الجميلة تتهاتف الطيور من حوله مُتهاديةً إلى الأرض فتكسو الساحة ببهائها الأخّاذ، كم كان جميلاً ذلك المنظر، عندما تمتلئ الساحة بكُل تلك العصافير بمُختلف أنواعها وتُرافق تغاريدها ألحان العم جابر.

 

حتى أنه لم يغب عن بالي يوماً أن أتفقّد نافذة لينا التي لم تكن تسمح للضوء أن يدخل إليها سوى عند حضور العم جابر، لم أكن أعلم كثيراً عنها سوى اسمها وجمالها الذي يخفى عن العالم، كثيراً ما حاولتُ التمعّن جيداً في حالها لكنّها لم تكن تظهر كثيراً، وأكاد أُجزم قطعاً أنها لم تخرج من بيتها سابقاً، لذا فكان فتح نافذتها أمراً يحدث في اليوم مرة واحدة والأحرى في ذلك أنها تفتحه عندما يتحسس العم جابر أوتار كَمَانه وتُغلقه بعد أن تتسلل ابتسامتها الأنيقة إلى قلب فادي البقّال.

 

أما فادي فهو قصة أخرى، فقد كُنت أرقبه جيّداً كيف كان يُتابع طلّة لينا وحضورها الذي يُزيّن مبسمه، كان يُحبّها.. وهي كانت تراه لكنها لم تكن تُدرك حتماً ما الذي كانت تعنيه نظرتها تلك لقلبه الذي يمتلئ بها، فادي راقٍ أيضاً إنه من ألطف شباب الحي تعاملاً وأكثرهم جمالاً، لا أخفي عنك إعجابي به، فقد أثَّر بي كثيراً عندما كان يستيقظ في كُل صباح ليُخرج الجدة أُم آدم من منزلها الصغير كي تتنفس الجمال تحت أشعة الشمس الصباحية مع العم جابر، وهو لم يكن يكتفي بذلك فقط بل كان يأتي بوجبة الإفطار لها، أُجزم أحياناً أنها كانت تتدلل عليه وتُعامله كأنه ابنها، وبالمناسبة لقد طال غياب آدم ابن الجدة، هو مُختفٍ مُنذ اشتعلت شرارة الثورة.

 

لم أعد أُريد البداية، أُريد فقط النهاية حتى أحفظ قلبي من ترهات القادم الذي يخُبّئ لنا كُل شيء نخافه وكُل شيء لا نُريده أيضاً

لم أكن أعلم حقاً ما الذي أراده آدم عندما غاب كثيراً لأجل التظاهر في تلك اللحظة، حتى أنني أذكر أن آدم كان من أكثر شباب الحي وفاءاً للناس وأكثرهم حُباً للغير ومُبادرة لمساعدة مَنْ يحتاج المُساعدة، كان أكثر طيبةً وتقديراً للجيران من غيره، وعلى الوجه الآخر أيضاً لم أذكر أن أحداً كان يكرهه، كان الجميع يُحبه حتى الجيران من أصحاب الديانات الأخرى، فالعم جابر كان يُحب آدم كثيراً، وأحياناً ما كان يعزف للجدة أُم آدم مقطوعاتً خاصة كانت تؤثر بها عندما تتذكر ابنها المُختفي منذ سنوات، لأن آدم الهادئ كان يُحب تلك المقطوعات كثيراً، وعندما ينتهي العم جابر من معزوفته لآدم كان يتبادل أطراف الحديث مع الجدة عنه، حتى تنتصب الشمس عمودية عليهما فيأتي فادي ليأخذها إلى بيتها.

 

على العموم فالأمر الذي لم أكن أعلم ماهيته قبل سنوات عديدة من الآن، فهمته اليوم درساً عملياً عما كان يُلمح عليه آدم وأصدقاؤه من الثوريين والمتظاهرين قبل عدة سنوات، لأن كُل هذه الأحاديث والرسائل التي أكتبها إليك الآن كانت من الذكرى، ولم تعد موجودة في هذه الصورة التي أراها أمامي الآن، فأنا لم أكن أسمع أغنية اللاجئين قبل سنوات ولم أكن آكل وجبةً من الخُبزِ الفقيرِ الذي يخلو منه أي نوعٍ من أنواعِ الطعامِ الذي أصبحَ غريباً علينا، لم أكن أسمع أغنية أبكي على شام الهوى، ولا ذلك الطفل الذي يصرخ "لاجئ.. سموني لاجئ!"، إيه يا عم جابر!

 

في هذه الحياة التي أعيشها اليوم يُؤلمني كُل شيء، وحتماً لم أعد أُريد البداية، أُريد فقط النهاية حتى أحفظ قلبي من ترهات القادم الذي يخُبّئ لنا كُل شيء نخافه وكُل شيء لا نُريده أيضاً، أتعلم شيئاً؟ حتى أنني أخاف أن أنقطع عن الكتابة إليك في هذه اللحظات لأنني إن انقطعت عنها لا أضمن رجوعي إلى إمساك القلم مرة أُخرى، رُبما لأن طابور الجِياع قد أصبح طويلاً جِداً وأصبح يتوجّب علي الوقوف لأكثر من 120 دقيقة كي أخذ كسرةً من الخُبز أسد بها رمقي الذي يُصدر صوتاً من الجُوع، ورُبما لأن صاروخاً ينتظرني هُناك عندما يصل دوري فأُحْمَل إلى سيارة نقل الجُثث دون أن آكل، ويأخذوني بعيداً عن ورقتي التي أكتبها إليك، على أي حال … أنا مُضطرة لترك القلم الآن كي أحصل على قُوْتي اليوم وإلا فلن آكل إلا بعد يومٍ أو أكثر إن لم نهرب إلى ملجئٍ آخر، لكنني أعدك، إن بقيت على قيد الحياة سأكتب إليك مرة أخرى.. إلى اللقاء."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.