شعار قسم مدونات

من ثمارهم تعرفونهم (3).. سنوات الحصاد

blogs - salfi

((إذا كان الغلط شبرًا = صار في الأتباع ذراعًا ثم باعًا)).

ابن تيمية.

 

 (1)

لقد وصلنا في الجزء السابق من هذه السلسلة إلى أن الحكم بنسبة الفساد في الثمرة أو القصور فيها إلى الشجرة – الخطاب الأساسي – يتوقف على النظر في أمرين: أولا: أن تكون المدونة النظرية لذلك الخطاب متضمنة لتلك السلبيات، أو حتى لا تشتمل على ضمانات تقي من الوقوع فيها، وثانيا: أن تتجلى تلك السلبيات في الممارسات العملية لرموز ذلك الخطاب.

 

عابت السلفيةُ على المتمذهبة التعصبَ، ولكنها تعصبت هي الأخرى لاختيارات فقهية في مسائل عريقة في الخلاف السائغ

فهذه هي النقطة الأساسية، والتطبيقية، التي سننطلق منها لنتكلم بحديث خاطف، ولكنه ذو دلالة؛ عن مدى مسؤولية الخطابات التأسيسية النخبوية للاتجاهات الفاعلة للإسلاميين عن الانحرافات التطبيقية، والفشل والانحطاط الذي نعانيه، كثمرة فاسدة. ولا يعني هذا أننا ننفي مسؤولية أطراف أخرى معادية ومناوئة عن بروز ذلك الخلل أو تضخمه. كما أنه لا يعني وجود لحظات مضيئة، لكنها امتزجت مع الأخطاء والخطايا؛ من النماذج نفسها، بحيث يكون الاجتزاء، والاقتصار على الجانب المضيء منها – لمجرد الدفاع -؛ نوعًا من خداع النفس.

 

(2)

بصورة أو بأخرى، ودون الخوض في تقويم أصل الدعوى: تفخر السلفية المعاصرة بكونها رائدة في النهضة العلمية الإسلامية المعاصرة، بعد ركود طويل من الاتجاهات التقليدية الصوفية الأشعرية، فضلًا عن الركاكة العلمية التي غلفت اشتغال الإخوان المسلمين العلمي. تفخر السلفية العلمية بنزعتها الإحيائية الاجتهادية ومقاومة التقليد الذي أورث الحياةَ العلميةَ للأمة التعصبَ. تفخر بإحياء السنن، ومقاومة البدع، وربط الأمة بالحديث الشريف وجعله أصلًا للعملية الفقهية في سياق تعظيم الدليل.

 

ولكن: وبقطع النظر عن الفوت الواسع بين تلك الدعوى والمنتج العلمي الناتج عنها بالمعايير العلمية الموضوعية؛ إلا أن خللًا هائلًا وفسادًا مستشريًا جرى وتجذر، لا تخطئه العلم؛ في السياق العلمي للسلفية العلمية والدوائر السلفية الأخرى القريبة منه.

 

لقد تبنت السلفية أقوالًا ضعيفة من الجهة العلمية، أو هي أقوال قلة من العلماء، كتحريم النمص مطلقًا وبكل صوره، وتحريم إسبال الثوب مطلقًا، ووجوب ستر وجه المرأة؛ ثم سوقتها كأنها لا خلاف فيها، وجعلتها شعارًا لها، ثم تعدَّتْ بها على المخالف! – لقد أصدرت أكبر لجنة علمية سلفية فتوى ذكرت فيها أن الأخذ من اللحية قول مهجور مخالف للسنة يخالف عامة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم! في حين أن فتواها بعدم جواز الأخذ منها مطلقًا هي التي لا سلف لها أصلًا.

 

ومع ذلك فليس هذا هو الإشكال الأساس، لكن الأكثر إشكالًا من ذلك أنها جعلت أقوالها مطابقة للسنة، ورمت المخالف بمخالفة السنة! وبالتمييع، وبالدعوة للسفور والتبرج!

 

عابت السلفيةُ على المتمذهبة التعصبَ، ولكنها تعصبت هي الأخرى لاختيارات فقهية في مسائل عريقة في الخلاف السائغ. بغَتْ على المخالف وجرّأت عليه من هو في منزلة العوام في العلم، ورمته بالتمييع والتساهل والتفلت؛ في أقوال هي عين أقوال كبار أئمة السنة، كقولهم في الإسبال وتحريمه مطلقًا ولو من غير خيلاء، رغم أن الإمام أحمد نفسه – وهو قول عامة الفقهاء – نص في مسائله أن التحريم ليس إلا للخيلاء، واستدل بالحديث نفسه الذي يستدل به المميعون! كم أنفق مشايخ السلفية ودعاتهم وطلبتهم من الطبقات الدنيا؛ الوقت والجهد في بيان مدى تمييع هذا القول وتأويله للحديث ومحاولة تفلته من السنة! هذا مثال، لكنه دال. إنه خلل التنظير، الذي أنتج خلل التطبيق. ما فائدة إلقاء محاضرة عن الخلاف العلمي وآدابه، وأنت طالب في مدرسة (اتركوهم اتركوهم هؤلاء المتعالمين) حين تقال على مسألة مقررة عند أهل السنة كالعذر بالجهل، أو مدرسة (اقرضه قرضًا واطحنه طحنًا) حين تقال على مسائل خلافية، منها السُّبحة!

 

نوازل ومخترعات! كالتصوير الفوتوغرافي جُعل القول فيها هو عين القول بالحديث، صريحًا، لا على سبيل القياس أو الإلحاق، واعتبر المخالف مميعًا، بل اعتبر خلافه غير سائغ!

 

وحتى المسائل التي فيها خلاف غير سائغ، أو في سواغ الخلاف فيها خلاف، كالمعازف: ما البيِّنة الدينية التي تجعل التيار السلفي في عمومه يرمي المخالف فيها إما بالجهل وقلة العلم، وإما بالتساهل والهوى؟! كيف كان العلماء يتعاملون مع المبيحين للمحرمات التي لا يسوغ فيها الخلاف عندهم، دون بينة من تلاعبٍ أو نقص في العلم أو إرادة الحق، كربا الفضل، وشرب قليل المسكر غير العنبي، وإتيان الدبر، ونكاح المتعة؟ ألم يقل الشافعي إننا لا نقول عنهم إنهم حرموا الحلال أو أحلوا الحرام، لأنهم اجتهدوا؟!

 

(3)

لقد تصرف بعض السلفيين في كتبٍ حققوها، حذفوا منها جملًا وعبارات، بل وفصولًا برمتها، حتى طبعوا كتبًا لمجرد حشوها بالرد عليها؛ دون هذه الزوبعة، بل ربما التُمِس لذلك الأعذار، بل ربما اعتبر حسنة ومصلحة راجحة

السلفية في عموم خطابها، وفي جيل الرعيل الأول، لم تعمل بالعدل – في كثير من الأحيان – مع مخالفيها غير السلفيين. يمكنك أن تصف مخالفك بالكلب العاوي لمسألة بعينها أفتى بها كبار العلماء السلفيين المعاصرين – الانتخابات – لتقول بعدها بخجل إنه خطأ ينبغي أن يناصحوا فيه.

 

 عالم حديث مرموق سوري، لكنه ليس سلفيًّا مع الأسف، عومل كما لو كان من أعداء الدين. رسالة كاملة خصصتها قامة سلفية علمية كبيرة، مع مرفقات لشخصيات سلفية أخرى؛ في النقر والتفتيش وراءه، خلف الكلمة والهمسة؛ للطعن فيه والتشكيك في أمانته وعلمه، بما يوجد في كتب السلفيين، والمشتغلين بالحديث منهم؛ أضعافه، بلا بينة قصد تعمد منه في الجميع، ولو فُرض وقوعه فوجود التحيز والهوى القليل في شُغل العلماء ظاهرة معروفة، ولكن لا حس ولا خبر! فحذفُ كلمة اختصارًا – أو تصرفًا لهوى في أسوأ الأحوال – من تخريج أو ترجمة راو؛ جرى التعامل معه كما لو كان اكتشاف سر القنبلة النووية، وليس كمجرد استدراك أو ملاحظة علمية بالعدل والرفق كما يحدث في الحالة الطبيعية بين العلماء. لقد تصرف بعض السلفيين في كتبٍ حققوها، حذفوا منها جملًا وعبارات، بل وفصولًا برمتها، حتى طبعوا كتبًا لمجرد حشوها بالرد عليها؛ دون هذه الزوبعة، بل ربما التُمِس لذلك الأعذار، بل ربما اعتبر حسنة ومصلحة راجحة.  أما لو علّق هذا الشيخ المغبون تعليقًا علميًّا مخالفًا لرمز سلفي كابن تيمية، مع وفور الاحترام والتقدير؛ فهي الجناية الشنعاء بلا شك.

 

حتى المخالفون الأكثر إيغالًا ومجاهرة بعداء السلفية، لم يقم فيهم كثير من السلفيين بالقسط. شيخ الشيخ السابق ذكره، وهو محدث وفقيه ومحقق تركي، وقد جرى وصمه بالتجهم – وهو مجرد حنفي ماتريدي على طريقة المتأخرين، فلم يختص دونهم بهذه الصمة؟ -؛ صار مجرد اسمه سُبَّة وتعييرًا. تم التعامل معه بقسوة وتشهير، رغم مساعيه الإسلامية الحسنة المعروفة وجهاده، وغُمِط علمه ودرجته في العلم، مع أن أخطاءه، سواء أكانت التعصب المذهبي، أو الهوى الظاهر أحيانًا، أو الإفراط والبغي على المخالف؛ هي أخطاء من جنس أخطاء السجاليات الأشعرية السلفية المعتادة منذ ابن تيمية وخصومه، ولكن ابن تيمية لم يشيطن خصومه – العلماء منهم حقًّا – بهذه الصورة، بل كان يثنِي على العالم منهم وعلمه. انظر كيف تعاملت قائمة علمية يمنية كبيرة – لكنها لا تتمتع بهذا الذوق السلفي العدائي – مع ذلك المحدث، رغم أنه قسا عليه في مواضع كثيرة، لكنه لم ينس أن ينعته باستمرار بالأستاذ وبالعلامة، والإقرار بعلمه مرات متعددة.

 

داعية ومفسِّر ووزير أوقاف سابق مصري شهير جدّا، وضع له القبول، بل هو رمز للتدين في أوساط العامة في أكبر بلد عربي؛ جرى على لسان أحد رموز السلفية أنه منحرف ولا يعرف يصلي! ذلك الرمز السلفي له كتاب مشهور في صفة الصلاة، وهو محل اعتزاز كبير منه في ذلك الموضوع بطبيعة الحال.

 

وفي الحقيقة لست في حاجة لكثرة التدليل بشخصيات علمية، خالفت السلفية، ولو ضمنيًّا من غير تصريح أو مساجلة، وجرى سحقها، ومحو مكانتها من المخيلة السلفية التي تنزل إلى عامة الجمهور السلفي والمتأثر به والمتعاطف معه، بحيث شوهت سمعتهم وشُهِّر بهم، وقل انتفاع الناس بهم، بدلًا من التداول العلمي بالعلم والعدل والرفق؛ فإن القائمة ستطول جدًّا إذا حاولت الاستمرار.

 

(4)

حتى المتقدمون من العلماء بُغي عليهم في كثير من الأحيان. فلم تسمح نفس بعض كبار علماء السلفية المعاصرة أن يترحم على ابن حزم، رغم أن من وصفه بالتجهم في بعض المسائل – ابن تيمية – مكثر من الترحم عليه والثناء على علمه وقصده، وهذا العالم نفسه قد وصف ابن حزم أنه اتبع هواه في مسألة المعازف! فأين البينة أنه قال بالهوى لا بما ظهر له من وجه الحق؟!

 

ليس عدم العدل مع العلماء منحصرًا في البغي، ولكن في غمط أقدارهم وعدم إنزالهم منازلهم. بعض علماء السلفية الكبار أبدى تحفظًا على وصف ابن قدامة بالإمامة، ورأى أنه لا ينبغي الإسراف في تلك الألقاب. وكثير من السلفيين يتحرجون من وصف الغزالي أو الجويني بالإمامة باعتبارهم مبتدعة. ويفضَّل ألَّا يكون النووي وابن حجر – صاحبي الشروح الحديثية الأساسية في مدرسةٍ علمية تعتمد على الحديث – أشعرييْن. الشيخ زكريا الأنصاري المتبحر في جميع العلوم لا يستحق لقب شيخ الإسلام أيضًا. قد نتفهم ذلك – وإن لم نقبله – إذا كان مسطرة عامة. لكنهم أنفسهم لا يجدون غضاضة في وصف الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بل وبعض المعاصرين من علماء السلفية، بشيخ الإٍسلام! ويصفون عامة المشايخ الكبار السلفيين بالإمامة، مع البون الشاسع في المراتب العلمية الحقيقية لهؤلاء العلماء عن تلك الألقاب. ويموت الكلام عن الموضوعية، ويصبح تفريق الألقاب بالهوى والمحاباة.

 

(5)

الثمار الفاسدة لهذا الخلل العلمي والسلوكي الذي تعمق في تلك التيارات؛ كثيرة.

 فإنا لنا أن نتساءل: ماذا يمكن أن يؤثر ذلك الذي تقدّم على صغار طلبة العلم؛ في نظرهم للعلماء المعاصرين المخالفين، على أنهم مجموعة من الجهلة، أو في أحسن الأحوال – أو أسوئها لا أدري -: من العلماء الضالين المخالفين للحق بالتشهِّي والهوى والتمييع؟ وكيف يكون النظر للعلماء السابقين ومكانتهم ومن ثم التعامل مع تراثهم، والحال أن هناك هذا الاستخفاف والاستهانة بأقدارهم، والإعراض عن تأصيلاتهم وأحكامهم، وليس هذا فحسب، ولكن الحكم على أقوالهم بعينها – التي يتبناها معاصرون مخالفون – بأنها مخالفة للسنة وتمييع وانحلال؟

 نعم؛ يمكنك أن تقول بلسان الحال عكس ذلك كله، لكن التصرفات أرسخ تأثيرًا في النفس من الكلام، والدعوة بالحال أبلغ من المقال. وسيأتي معنا أن التخوفات المذكورة ليست هواجس، بل هي واقع جرى وتحقق.

 

البغي هو بوابة التفرق المُشرعة على مصراعيها. فإنك متى وصفت القول المخالف إنه خلاف السنة، وأنه تمييع وتساهل، وأنه جهل؛ فلابد أن القائل به مخالف للسنة – ربما مبتدع في الحالات الأسوأ – مميع متساهل جاهل.

 

 قال ابن تيمية: ((الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد)). لم يكن الخلاف السائغ يومًا سببًا في الافتراق والفتنة، وتعايش المجتمع العلمي مع خلافاته ولم ينزلها إلى الخطاب الشعبوي ويبلبل العامة به.

 

 ومن هنا ألا يحق لنا السؤال: لماذا يترافق وجود السلفية في مجتمعات غير سلفية مع الافتراق – افتراق القلوب لا افتراق الآراء – والفتن؟ ولماذا وجود السلفية في محاضنها السلفية نفسها يترافق مع التشظي والانقسام بسرعة هائلة؟

 

تقلدت السلفية منصب القيادة للمشهد الإسلامي، فماذا صنعت فيه وهي الآن تنحسر عنه؟ ما هو كشف الحساب الختامي للسلفية المعاصرة في نحو خمسين عامًا من التصدر الآن؟

لقد كان التعصب سببًا لتسلط الأعداء، من الداخل: الاتجاهات الباطنية والفلسفية والصوفية الغالية المنحرفة، ومن الخارج: في صورة الغزو والاستئصال. قال ابن تيمية: ((من أسباب تسليط الله التتر عليها – يعني على بلاد الشرق، ثم الفرنجة على بلاد الغرب – كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا. وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا. وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه)).

 

وهذا ما جنته السلفية اليوم. فبيضتها لم تعد محمية، وانشقت على نفسها انشقاقات كثيرة، يبدع بعضها بعضًا ويطعن بعضها بعضا، فتسلطت عليها الاتجاهات التقليدية كالأشعرية والصوفية، وصارت لها الجولة عليها من جديد، فضلا عن الاتجاهات الأكثر بُعدًا كالتنويرية والعلمانية.

 

وكل ذلك لا يعني أن التيارات المخالفة للسلفية هاهنا بريئة مطهرة، ولكن السلفية من تبنت تلك الدعوى الإحيائية، وبشّرت بمنجزاتها المتوقعة، وبأنها تصفّي لتربّي، فهل صفّت؟ وهل ربَّت؟ ثم إنها – وهذا لا ينبغي إنكاره – قد تقلدت منصب القيادة للمشهد الإسلامي، فماذا صنعت فيه وهي الآن تنحسر عنه؟ ما هو كشف الحساب الختامي للسلفية المعاصرة في نحو خمسين عامًا من التصدر الآن؟ وهو كشف الحساب الذي لن يخلو من حسنات كثيرة، ولكنه مفعم بالأخطاء، والتي إنكارها مدعاة لتفاقمها. والتنصل منها مدعاة أعظم للطعن فيها. ولنا عن خطاب التنصل حديث مستقل في آخر جزء من تلك السلسلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.