شعار قسم مدونات

لن أبحث عن الله

blogs - sky
لستَ بعيداً، ولا مجهولاً، ولا ضائعاً لأبحث عنك.. وأنا أيضاً. لستُ بعيداً.. ولا جاهلاً، ولا ضائعاً لأبحث عنك.. في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار طريق إليك.. سأعرفه، فهو طريق أولي الألباب.. وطالما أذكرك، فسأجدك، فكلامك هو ذكرك، وقراءته توصلني بك دائماً..
شكّلّت ظاهرة "البحث عن الله" جدلاً كبيراً بين الشباب، وهي ظاهرة قديمة، تزداد رواجاً كلما بدأ أحدهم بحثاً، أو أنهاه، معلناً على الملأ ما وصل إليه.. أعتبر البحث هو نقطة فوضى، يتعثر فيها المرء، ويبدأ يبحث عساه يجد نفسه في داخل الفوضى التي تجتاحه.. هو غالباً يبحث عن نفسه لا عن الله، عن سكينة نفسه، عن لمّ شعثه، عن سكون نفسه.. عن سكونه وأمانه الداخلي، عسى يصل للاستقرار..

لي صديق غرق في البحث، وتنقل بين تيارات مختلفة، إلحاد وشيوعية وعلمانية، حين قرر الزواج عاد إلى مدينته وتزوج فتاة منقبة.

لا يكون ذلك إيجابياً إلا حين يكون "البحث" وسيلة، بل مجرد أداة.. يضطر الضائع لاستخدامها عساه "يجد" ما يبحث عنه.. قد يستغرق البحث شطراً من عمره، كبحث "سلمان الفارسي" .. وقد يستغرق أقلّ من ذلك بكثير.. ككثير من الأمثلة التي نراها على مر السنين، وأسلمت واهتدت، وأقرّت أنها كانت في مرحلة ضياع، كيوسف إسلام المغني المشهور.

تكمن المشكلة حين يصبح البحث في حدّ ذاته هدفاً.. ويستغرق الباحث في لذة الضياع، والبحث، والشكِّ، والتمرُّد على حالة الاستقرار التي يعيشها من وجد.. ليس كلُّ مؤمن بالفطرة هو لم يبحث.. بل كان طريقه أقصر، بل ربما كانت فطرته مرتبطة بثبات كبير..

حين تعلمنا العقيدة في الحلقات التقليدية بالمساجد -وكنا في أول الثانوية- قيل لنا بشكل صريح: لا يصح في الإيمان التقليد، لابد أن تؤمن عن قرارة نفسك.. ولابد أن تضع أمامك فرضية: أين الصواب؟ كان ذلك في حلقات علم مشيخية تقليدية، هي نموذج مطابق تماماً لما كان يُعرف "بالكتّاب".. لذلك كنا تمرداً على أهلنا نقرأ الكتب المحظورة والممنوعة، ولكننا نحيط أنفسنا بقاعدة: ابحث لتجد.. وكنا نستغرب من إخفاء أهلنا للكتب أو منعها عنا، ولكن حين غرق بعض رفاقنا بالبحث لمجرد البحث، وحرصوا ألا يرسو قاربهم على أي شاطئ، ووجدنا الأمواج تتقاذفهم.. فهمنا دافع أهلنا.. فندر أن رسى الغارقون في البحث على برٍ واسقرَّ به.. فهو دائم التقلبات..

ولعل النماذج الحالية التي أحدثت جدلاً دليل على ذلك. لي صديق غرق في البحث، وتنقل بين تيارات مختلفة، إلحاد وشيوعية وعلمانية، حين قرر الزواج عاد إلى مدينته وتزوج فتاة منقبة عائلتها من الإخوان، وعندما بدأت الثورة في سوريا كان أول من دعا لحمل السلاح..

مهما كانت اليابسة، قاسية فهي جافة، فإن الواقف عليها مهما طال به المقام، فإنه يقف على استقرار وثبات.

صديق آخر من كثيري القراءة أغرته فكرة البحث عن الله، فوجد أن الله تعالى غني عن العالمين.. لذلك -حسبما توصل إليه- الصلاة خطيئة، فالله أكبر أن يحتاج لصلاتنا.. وأن شرب الخمر ليس بمحرم، فالله أجلّ من أن يعاقب عباده على شرب شيء هو خلقه.. وأجبر زوجته على نزع الحجاب، وما يزال يبحث عن الله بترك الفرائض وممارسة المحرمات!

ولعل آخر أنموذج صارخ للبحث الذي يوصل إلى أقصى درجات الغلو، هو "أبو نمر" الذي عرفه العالم كله حين أرسل أطفالاً دون العشر سنوات بأحزمة ناسفة للقيام بتفجيرات بدمشق. طفل اعتقل، وطفلة فجرها بحزام ناسف مخفر شرطة، والثالثة خافت ورجعت!

"أبو نمر" كما حدثني أقرباؤه: تنقل بين المسيحية، والدرزية، والإلحاد، والإسلام، وكان قد حاول ذبح أمه لأنها مسلمة (حين ترك الإسلام)، ولما عاد وأسلم انتسب لفصائل جهادية، ما لبث أن كفّرها، ثم انتسب لتنظيم داعش، ولكنه أيضاً كفّره، ثم أرسل الطفلة إلى الجنة بتفجيرها في مخفر شرطة، إلى أن قتل منذ يومين حين حاول الثوار القبض عليه وتخليص أسرته منه..

هي خطورة الإبحار في محيط متلاطم الأمواج على غير هدى.. بحثاً عن اللاشيء.. تمرداً على كل الشطآن.. كالقرصان الذي يستغرق بمتعة الإثارة عند مجابهة العواصف، يقتات على السفن الباحثة عن مرفأ، ولكنه لا يكون مصيره إلا الغرق في هذا المحيط الذي لا قرار له.. أما اليابسة، فمهما كانت قاسية جافة، فإن الواقف عليها مهما طال به المقام، فإنه يقف على استقرار وثبات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.