شعار قسم مدونات

السيولة وظواهرها.. نافذة على فكر باومان

blogs-سوء معاملةالمرأة

وأنت تفكر كيف لرجل يبعد عن داعش آلاف الأميال يقتل عشرات في ملهى ليلي باسم هؤلاء، أقرأ هذا الكتاب..

وأنت تفكر أن عليك أن تغير الجوال الذي اشتريته قبل أشهر معدودة اقرأ هذا الكتاب..إن كنت تفكر في علاقاتك الإنسانية لما يشوبها هذا الشحوب ..إن كنت تعتقد أن الوقت لم يعد مباركا و أنه أسرع منك، اقرأ هذا الكتاب.

إن كنت تتساءل عن من يفعل عوض ماذا سيفعل..إن كنت تعمل في الخليج ..وإن كنت تفكر أن تغير عملك لأنهم لم يقيدوا اسمك ضمن لوائح الضمان الاجتماعي اقرأ هذا الكتاب.

المجتمع ما بعد الحداثي يفعّل طاقات أعضائه باعتبارهم مستهلكين لا منتجين، الاستهلاك الذي يهدف إلى تحقيق الوعد المضلل المتلاشي بحياة خالية من المتاعب.

إن لم يكن لديك الوقت لتقرأ هذا الكتاب عليك جديا أن تجد وقتا لتقرأ فكر زيجمونت باومان، كان هذا تعليق ايمان فى إحدى الريفيوهات على موقع جودريدز.

لقد تعرف القارئ العربي  على باومان منذ فترة قريبة حين قام د. حجاج أبو جبر بترجمة كتابه "الحداثة والهولوكوست" الذي يروي لنا فيه سردية الحداثة، حيث لا فرق بين مقترف الجريمة والقادر على منعها كلاهما مجرم يستحق العقاب.

وقد نفى أن يكون موضوع الإبادة أو الهولوكوست هو الجماعات اليهودية، بل هي أحد منتجات الحداثة ذاتها التي تفرز نفي الآخر.

بدأ باومان كتابه "الحداثة السائلة" بمقولة بول فاليري " الانقطاع والتفكك والمفاجأه في السمات العادية لحياتنا، بل صارت حاجات واقعية لكثير من الناس الذين لم يعد يغذي عقولهم أي شئ سوي التغيرات المفاجئة والمثيرات المتجددة علي الدوام .. لم يعد بوسعنا أن نطيق أي شئ يدوم. لم نعد نعلم كيف يمكننا أن نفيد من الملل".

استعمل باومان كلمة سائل بالاستعارة من طبيعة المواد الفيزيائية، للمواد السائلة تتميز عن المواد الصلبة بعدم قدرتها على الاحتفاظ بقوة التماسك بين مكوناتها في حالة السكون، وفي أنها لا يمكن أن تحتفظ بشكلها بسهولة.

فالحداثة هي عملية إذابة لكل ما هو صلب وقد ظهر ذلك في محاولة التحرر من الدين والعادات والتقاليد وكل ماهو صلب قديم واستبداله بمواد صلبة جديدة.

اختلفت الحداثة اليوم عن الأنظمة الشمولية في أنه لم يعد هناك أخ كبير يراقبك أو يعاقب من يخرجون عن الصف، أصبحت الآن مهمه الأفراد بأن تراقب الطبقات المتضخمة لعلها تتعلم منها أو تقلدها.

لم يعد هناك قادة عظام يقولون لك ماذا تفعل ويريحونا من المسؤولية المتعلقة بتبعات أفعالك، يوجد فقط أفراد آخرون يمكنك أن تقتدي بهم في التعامل مع أمور الحياة. الحداثة اليوم أصبحت أخف وتحررت من مسؤوليتها أصبح التحديث مسؤولية الأفراد.

في مثل هذا العالم لا يوجد مكان للشقيق الأكبر الطيب الحنون الذي يمكن الوثوق به والاعتماد عليه . وهكذا توقفت الكتابة عن يوتوبيا المجتمع الصالح فكل شئ يؤول إلى الفرد.

صارت الروابط والعلاقات في عصر الحداثة السائلة أشياء نستهلكها لا ننتجها، إنها تخضع لمعيار التقييم نفسه الذي تخضع إليه موضوعات الاستهلاك الأخرى.

عبرت الحداثة الصلبة عن نفسها في مرحلة الرأسمالية الثقيلة عن طريق المصانع الضخمة والمعدات الثقيلة والأيدي العاملة الهائلة، وكان رأس المال يتقيد بالأرض تماما مثل العمال. أما في الحداثة السائلة فإن رأس المال ينتقل في خفة في حقيبة سفر صغيرة، حقيبة لا تحتوي علي أكثر من محفظة وهاتف جوال و حاسوب متنقل.

أما العمل فيبقى ثابتا في مكانه لكن المكان الذي توقع ذات مرة أن يتقيد به مرة وللأبد فقد صلابته التي كان يتمتع بها في الماضي. الرأسمالية الثقيلة كانت عالم السلطات حيث سلطة القادة الذين يعرفون أفضل، وسلطة المعلمين الذين يعلمون المرء كيفية تحسين مستواه أما الرأسمالية الخفيفة صديقة المستهلك فلم تلغ السلطات وإنما أوجدت سلطات عديدة ولكنها أصبحت لا تأمر ولا تنهى، إنما تتودد إلى صاحب الاختيار وتغريه وتغويه .

إن المجتمع ما بعد الحداثي يفعّل طاقات أعضائه باعتبارهم مستهلكين لا منتجين، الاستهلاك الذي يهدف إلى تحقيق الوعد المضلل المتلاشي بحياة خالية من المتاعب فإنه لا ينتهي ما إن بدأ.

أصبحت المدينة "مستوطنة بشرية يلتقي فيها الغرباء " فلقاؤهم يختلف عن لقاء الأقارب أو الأصدقاء، فلقاء الغرباء بغض للقاء، فلا يستأنف الغرباء موضوعات النقاش ولا يتشاركون أفراحهم ولا أتراحهم بل يجتمعون وينصرفون من دون ذكريات مشتركة، فلقاؤهم في الغالب حدث بلا ماضي وعادة بلا مستقبل، فوقت اللقاء لا مجال للتجربة والخطأ ولا أمل في لقاء آخر.

أصبحت سياسات الخوف اليوم جزء من الثقافة العامة في المجتمع مابعد الحداثي، وقد عبرت زوكلين عن ذلك بقولها "لم تكن محاصرة الجريمة عبر بناء مزيد من السجون وفرض عقوبات الإعدام إلا استجابة ورد فعل طبيعي لسياسات الخوف.."

صارت الروابط والعلاقات في عصر الحداثة السائلة أشياء نستهلكها لا ننتجها، إنها تخضع لمعيار التقييم نفسه الذي تخضع إليه موضوعات الاستهلاك الأخرى، فلم تعد مهمة الشريكين العمل على استمرار العلاقة ونجاحها بل صار الأمر مسألة تتعلق بإشباع الرغبة من منتج جاهز للاستهلاك.

العقاب على انتهاك قانون العولمة الجديد أصبح سريعا وغالبا مايكون عقوبة اقتصادية، إذ تُحرم الحكومات المتمردة من القروض ولا تنعم بتخفيض ديونها.

وإذا كانت اللذة الحاصلة لاتصل لمستوى الموعود ولا المتوقع، يمكن للمرء أن يقيم دعوى طلاق ويستشهد بحقوق المستهلك وقانون المواصفات التجارية، ومن ثم فإن الطبيعية المؤقتة للعلاقات تتحول عادة إلى توجه نحو إشباع الذات.

العقاب على انتهاك قانون العولمة الجديد أصبح سريعا وغالبا مايكون عقوبة اقتصادية، إذ تُحرم الحكومات المتمردة من القروض ولا تنعم بتخفيض ديونها. وهي الحكومات التي تدان باتباع سياسات من شأنها حماية الإنتاج الوطني وتوفير مخصصات عامة كريمة لقطاعات السكان عديمة القيمة الاقتصادية والاحجام عن ترك البلاد تحت رحمة الأسواق المالية.

لقد تناول الكتاب صيغ الحداثة وانتقال معالمها من الحالة الصلبة من هياكل وأبنية وتصورات ومفاهيم مستقرة إلى حالة السيولة في ظل العولمة، وثورة الاتصالات وتنامي تدفقات البشر والأموال والسلع عبر القارات.

والكتاب واحد من كتب نظرية السيولة الخمسة التي صدرت ضمن سلسلة الفقه الاستراتيجية عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، "الحب السائل" الذي يتحدث برؤية نقدية تحليلية عن السيولة الحالية في العلاقات العاطفية وصيغ الزواج المستجدة والنظر للجسد والمشاعر، وكتاب "الزمن السائل" و"الخوف السائل" وأخيراً "الرقابة السائلة".

تقول دكتورة هبة رؤوف عزت " قد يجد القارئ نفسه متفقاً أو مختلفاً مع باومان ونحن كذلك، لكن هذه هي الغاية الحقيقية من أي عمل للترجمة فليس الهدف النقل ولا موقفنا قبول الأفكار أو التبرير، بل الفهم وإحياء فريضة التفكير..وترشيد مساعي التغيير"
وعلى الله قصد السبيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.