شعار قسم مدونات

شاعر وطني لم يُوفِه الوطنُ حقه

blogs - istanbul

أحيا الأتراك، الثلاثاء الماضي، الذكرى الثمانين لرحيل الشاعر محمد عاكف أرصوي، الذي كتب النشيد الوطني التركي المسمى "نشيد الاستقلال"، وهم يشعرون ببالغ الحزن والأسى لعدم إيفاء هذا الشاعر الوطني الكبير حقه في حياته. وهذا الشعور يشتعل كل عام مع ذكرى جديدة كجرح لم يندمل، على الرغم من مرور السنين على رحيله.

 

محمد عاكف أرصوي، المسمى "شاعر الاستقلال"، كان من رموز حرب الاستقلال وتحرير الأناضول من المحتلين. وكانت وزارة التعليم أعلنت في نهاية عام 1920 مسابقة لكتابة نشيد وطني يرفع معنويات الجنود والمواطنين، شارك فيها عدد كبير من الشعراء. وكان محمد عاكف لم يشارك في المسابقة بسبب المكافأة المالية التي أعلنت أنها ستقدم إلى الفائز، وهي 500 ليرة تركية، لأنه كان يرى أن الأعمال الوطنية يجب أن لا تُكافأ بمقابل مادي.

 

تم اختيار ست قصائد من بين القصائد المرسلة إلى المسابقة، ولكن لم تكن أي منها تصل إلى المستوى المطلوب. وبعد إلحاح أصدقائه، اقتنع محمد عاكف بضرورة المشاركة في المسابقة، وانتهى الشاعر الكبير من كتابة قصيدة "استقلال مارشي" أي "نشيد الاستقلال" خلال 48 ساعة، وسلَّمها إلى الوزارة. وأُرْسِلت القصيدة مع القصائد الست الأخرى إلى الضباط ليلقوها على الجنود حتى يتم تصنيفها حسب إعجابهم. وحلت قصيدة محمد عاكف أرصوي في المرتبة الأولى.

 

نشيد الاستقلال قُرأ مرتين في البرلمان التركي وسط تصفيق حار، ولقي إعجاب النواب، وتم إقراره كالنشيد الوطني. وأراد محاسب البرلمان تسليم المكافأة المالية إلى محمد عاكف، إلا أنه رفض استلامها. ولما قال له المحاسب إنه مضطر لتسليمها إليه استلم المكافأة ولكنه تبرع بها لجمعية خيرية تعنى بالفقراء والمساكين، على الرغم من أنه كان مدينا، وبحاجة ماسة للمال، ولم يكن يملك معطفا يلبسه في الشتاء. وكانت 500 ليرة تركية آنذاك مبلغا كبيرا، وكان يمكن شراء مزرعة في العاصمة أنقرة بحوالي 140 ليرة تركية.

 

كتب محمد عاكف نشيد الاستقلال، وأهداه إلى الشعب التركي، ولم ينشره ضمن قصائده التي جمعها في كتابه الشهير "صفحات"، لأنه كان يعتبر نشيد الاستقلال ملكا للشعب. وكان يسأل الله أن لا يجعل الشعب التركي يقع تحت الاحتلال ليُكْتَب له نشيدُ استقلالٍ آخر.

 

رحل الشاعر محمد عاكف أرصوي، ولكن رحيله لم يكن نهاية القصة الحزينة، بل كان لها فصل آخر يشهد على الجريمة الكبيرة التي ارتكبها الوطن في حق شاعر الاستقلال الذي كتب نشيده الوطني

عاش الشاعر محمد عاكف أرصوي طوال حياته عزيز النفس ومرفوع الرأس، ولكنه كان من "المغضوب عليهم" لدى قادة الجمهورية الوليدة بسبب توجهاته الإسلامية. ولما قاموا بالتضييق عليه، اضطر للهجرة إلى مصر خوفا على حياته، وعاش فيها ما بين عامي 1926 و1936، وقال إنه لم يعد يحتمل أن تتم مراقبته وكأنه خان وطنه. ولم يكن يدفعون إليه راتب التقاعد رغم أنه كان يستحقه.

 

عاد الشاعر الوطني الكبير من القاهرة إلى إسطنبول في 17 يونيو / حزيران 1936 للعلاج، ولم يستقبله إلا عدد قليل من المواطنين. وكان يعاني من مرض التليف الكبدي. وبعد فترة وجيزة من عودته، توفي في 27 ديسمبر / كانون الأول 1936. ولم يتم له تنظيم مراسم الجنازة الرسمية، على الرغم من أنه كان شاعر الاستقلال ونائبا في الدورة الأولى للبرلمان التركي، بل حمله مئات من الطلاب الوطنيين إلى مقبرة أدرنه كابي بإسطنبول ليوارى الثرى. وكانت البلاد آنذاك تئن تحت وطأة دكتاتورية الحزب الواحد، حزب الشعب الجمهوري، ولم يشارك في الجنازة أي مسؤول. بل استدعت قوات الأمن أستاذا للتحقيق معه بسبب إلقائه كلمة في مراسم دفن لم تنظمها الحكومة.

 

رحل الشاعر محمد عاكف أرصوي، ولكن رحيله لم يكن نهاية القصة الحزينة، بل كان لها فصل آخر يشهد على الجريمة الكبيرة التي ارتكبها الوطن في حق شاعر الاستقلال الذي كتب نشيده الوطني. ويخبر ذاك الفصل أن رجلا دخل ذات يوم من أيام عام 1966 مكتب كاتب صحفي تركي، وكان في حالة من البؤس يرثى لها. وقال إنه نجل الشاعر محمد عاكف أرصوي، وطلب منه في خجل مساعدة بسيطة، وأعطاه الكاتب محفظته ليأخذ منها ما يريد. وأخذ الرجل مبلغا مما وجد في المحفظة، واعتذر إلى الكاتب على الإزعاج، ثم خرج من المكتب. وبعد حوالي شهر، قرأ الكاتب في الجرائد خبر العثور على أمين عاكف أرصوي ميتا في الشارع بجوار برميل للنفايات. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.